محن خير البشر صلى الله عليه وسلم

لقد لقي محمد عليه الصلاة والسلام من قومه من أذاهم ما لقي: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] لقد هموا به عليه الصلاة والسلام أن يقتلوه، ويستريحوا منه -فيما زعموا- وأن يثبتوه فيُفرض عليه الإقامة الجبرية ويمنعوه من مغادرة مكة، أو يخرجوه فينفوه إلى بعض البلاد ويرتاحوا من دعوته، فلقد لقي صلى الله عليه وسلم من قومه ما لقي، وفي الصحيح قالت عائشة رضي الله عنها: {ما أشد ما لقيت من قومك يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال في الطائف، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت على وجهي وأنا مهموم فلم استفق إلا وأنا في قرن الثعالب -قريباً من منى لم يستفق عليه الصلاة والسلام إلا في ذلك المكان، من الطائف مشى وظل في هم كاد أن يغطي عليه عليه الصلاة والسلام فلما أفاق إذا سحابة قد أظلته وفيها جبريل، فنزل وقال: إن ربك قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وهذا ملك الجبال فمره بما شئت، فسلم عليه ملك الجبال وقال له: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك فمرني بما شئت، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين -وهما جبلان بمكة- فقال عليه الصلاة والسلام: لا، بل أستأني بهم، أنتظر وأرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً} .

إن هؤلاء الأقوام قد تجردت نفوسهم من حظوظها، فلم يعد الواحد منهم ينتصر لنفسه ولا يغضب لذاته، بل كل أذى يناله في سبيل الله تعالى فهو هين، بل ربما فرح بالأذى كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كان أحدهم يفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالنعماء} يفرح لأنها عربون للصبر في ذات الله تعالى، وعربون الصدق في الدعوة وعربون الإخلاص، فإن الإنسان يعلم أنه إذا أوذي في الله فإن ذلك بقوة إيمانه وصدق يقينه، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يبتلى الرجل على قدر إيمانه إن كان في إيمانه قوة زيد في بلائه حتى يظل البلاء بالمؤمن فيمشي على الأرض وما عليه خطيئة} .

وسئل صلى الله عليه وسلم -من أشد الناس بلاءً فقال: {الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل} فهؤلاء القوم لم يعد الواحد منهم يبالي لما يصيبه في ذات الله، لقد عمل المشركون ضد النبي عليه السلام وضد المؤمنين ألواناً من الأذى، فعلى سبيل المثال لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة قال الله تعالى: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] فسمعوا من أهل الكتاب سخرية واستهزاء، بل كان اليهود كلما جدت شعيرة؛ دندنوا حولها وشوشوا وتكلموا وأجلبوا وشبهوا وظللوا، وحاولوا أن يوقعوا في قلوب المؤمنين من الريبة والشك.

وعلى سبيل المثال لما حولت القبلة إلى الكعبة تكلم اليهود وقالوا: لا يريد هذا الرجل أن يدع شيئاً من أمرنا إلا غيره وبدله، ورفضوا دعوته وأصروا على ما كانوا عليه، ثم سمعوا من المشركين أذىً كثيراً بل تجاوز الأمر الأذى بالقول واللسان، مع أن الأمر والبداية كلمات، ومن سل لسانه -كما يقال اليوم- سل سيفه غداً.

فهؤلاء تكلموا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وسبوه وآذوه ثم تطور الأمر إلى الحرب والقتال، فلقيه في بدر صلى الله عليه وسلم ثم في أحد حيث قتل أكثر من سبعين من أصحابه صلى الله عليه وسلم وجرح أكثرهم، بل جرح النبي صلى الله عليه وسلم شخصياً وشج رأسه، وكسرت رباعيته، ودخلت حلق المغفر في وجنته عليه الصلاة والسلام، وسقط في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق، حتى قال عليه الصلاة والسلام: {كيف يفلح قوم شجوا نبيهم} فأنزل الله مباشرة: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] فالتأديب والتربية والتهذيب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما غضب لشخصه ولا لأنه محمد بن عبد الله القرشي المطلبي الهاشمي، ولا غضب لأنه من مكة ولا لأنه من العرب، لا، إنما غضب لأن هذا اعتداء على مقام النبوة، شجوا نبيهم ومع ذلك يوجه الله تعالى ويعلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران:128] إنهم لم يتركوا سبيلاً إلا سلكوه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015