العبرة من قصة شريك والمهدي

وفي هذه القصة أيضاًَ عبرة، أولئك الرواة الذين يسمعون الحديث؛ وليس همهم أن يرووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أن يتلقوا العلم ولا أن يستفيدوا ويستضيئوا بنوره، وإنما همهم الوشاية به إلى الخليفة، روى فلان كذا وروى فلان كذا، إن من حق الأعمش ومن حق سالم ومن حق ثوبان ومن حق شريك أن يرووا ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يذهبوا به على وجهه السليم فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال هذا الحديث لم يقصد به ولم يكن معنى الحديث الخروج على الحاكم المسلم الذي يحكم بالشريعة إذا أخطأ أو قصر، فإنه صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث الصحيح حديث عبادة: {وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان} .

إذاً فالأمر معلق بأن يرى المؤمنون الكفر البواح الصراح، الذي لا لبس فيه ولا خفاء ولا مناورة فيه ولا مداورة، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإذا زاغوا عن الحق} أي: انحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل إلى الكفر البواح الذي عندكم من الله تعالى فيه برهان، ولكن بعض هؤلاء يسمعون الحديث ويسمعون الأخبار ويسمعون الروايات؛ وإنما همهم منها أن ينقلوا إلى غيرهم وأن يتشفوا من خصومهم، هذا جانب.

الجانب الثاني: ما جبل عليه علماء السلف الصالح كما يظهر في سلوك أسلوب شريك بن عبد الله رضي الله عنه من الصدق والوضوح والصراحة والشجاعة والصبر في ذات الله تعالى، حتى ولو كان في ذلك حتفهم وعطبهم وهلاكهم، فإن شريكاً كان يرى لمعان السيوف ويسمع القعقعة ويسمع أصوات الجند، وبين يديه أعداد متطاولة من الجند ربما لا يدرك البصر مداهم، كل واحد منهم منتظر أن يؤذن له حتى يخطف رأس شريك، وأمامه الخليفة وقد غضب وأحمرت أوداجه وأحمرت عيناه وأرغى وأزبد وزمجر، وكاد أن يفقد صوابه، ومع ذلك ظل شريك محتفظاً برباطة جأشه وقوة قلبه وصبره، حتى دافع عن الأعمش رحمه الله تعالى في مجلس الخليفة وذب عن عرضه لتذب عنه النار يوم القيامة.

ثم إن في ذلك دليلاً على ما تحلى به أولئك الخلفاء في الزمن السابق من التحري والدقة والصبر وحسن الظن، فإن المهدي في المرة الأولى لما قال له شريك: لماذا تستحل دمي برؤيا قد تكون حقاً أو باطلاً، وبمعبر قد يكون أصاب أو أخطأ؟ رجع إلى الحق وأذعن له ولم يمس شريكاً بشيء، وفي المرة الثانية لما حلف له شريك صدقه وكذب الراوي فيما روى أنه أخذ عنه، ثم طلب منه بعد ذلك أن يقسم قسماً صريحاً، فلما أصر لم يتسرع في قتله ولا إيذائه ولا إنزال العقوبة به، لأنه يدري أنه عالم له مكانته وله فضله وأن الأمة لا تعز ولا تعلو ولا تنتصر ولا تقوى ولا تجتمع كلمتها إلا على إعزاز العلماء وإكرامهم، وحفظهم وحفظ مكانتهم وحفظ هيبتهم وعدم المساس بهم، فإن كل أمم الأرض قاطبة منذ فجر التاريخ تعتز بأكابرها وسادتها وأهل العلم فيها، وتفخر بهم وتطلق أسماءهم على معالمها، وتسمي أولادها بأسمائهم، وتذكرهم بالذكر الحسن، وتدرس كتبهم وتحفظ علمهم، لأن الأمة التي ليس لها ماضٍ ليس لها حاضر ولا مستقبل.

مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيّ في الناس انتساباً

طور بواسطة نورين ميديا © 2015