شريك القاضي مع المهدي

أولاً: ذكر الإمام أبو العرب التميمي في كتابه الموسوم بكتاب: المحن، أن الإمام شريك بن عبد الله القاضي دخل على المهدي الخليفة العباسي مسلِّماً، فقال له: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فنظر إليه المهدي ولم يرد السلام، فأعادها شَرِيك مرة أخرى، فما رد عليه السلام، فقال له مرة ثالثة: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، فقال المهدي: عليَّ بالنطع، عليَّ بالسيف، عليَّ بالجلاد، قال القاضي شريك: ولم يا أمير المؤمنين؟ قال: إني رأيت في المنام البارحة أنك تطأ بساطي وأنت عني معرض، فأتيت بالعابر الذي يفسر الأحلام فسألته فقال: إن هذا الرجل يقبل عليك بظاهره وقلبه مع أعدائك، فأريد أن أقتلك وأنتصف منك، فتبسم شريك بن عبد الله وقال: والله يا أمير المؤمنين ما رؤياك برؤيا إبراهيم الخليل عليه السلام، ولا معبرك بمعبر يوسف عليه السلام، أفبرؤيا مثل هذه أو تعبير كهذا تراق دماء المؤمنين بغير حق، فلما سمع المهدي هذا الكلام سري عنه وزال ما في قلبه، واعتذر إلى هذا الرجل وقال له: اخرج من مجلسي، فخرج منه وهو يقول لمن حوله: أفرأيتم أعجب من هذا الرجل، يريد أن يقتل امرأً مؤمناً برؤياً رآها.

إنها مثلٌ من محنة خفيفة ألمت أو كادت أن تلم بهذا القاضي المعروف، وفي ذلك عبر وأسوة تدل على أن هناك من الناس من شأنهم وديدنهم دائماً وأبداً الوقيعة والنكاية والتشهير ومحاولة إيقاع خصومهم بأي سبب، وبأي وسيلة، ولعل عابر الرؤيا كان من هذا الصنف، فأراد أن يستغل الرؤيا للإيقاع بخصم من خصومه، وهو شريك بن عبد الله القاضي، كما تدل على أن الحكمة والمنطق السليم من أهم الأسباب في النجاة من مثل هذا الأمر، وهذه الرؤيا والقصة تذكرنا أيضاً بقصة أخرى.

ذكر الإمام الذهبي رحمه الله في ترجمة شريك بن عبد الله في ميزان الاعتدال: أن شريكاً هذا أتى به رجل من الرجال إلى مجلس الخليفة العباسي، وذلك أن رجلاً يقال له أبو أمية أمسك بـ شريك وأدخله على المهدي، وقال له: إن هذا الرجل يعني: شريك بن عبد الله القاضي حدثني عن الأعمش عن سالم عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {استقيموا لقريش ما استقاموا لكم} يعني لحكام قريش، لأن الحكام كانوا من قريش: {فإذا زاغوا عن الحق فضعوا سيوفكم على عواتقكم ثم أبيدوا خضراءهم} يعني نابذوهم وقاتلوهم، فقال الرجل للخليفة: إن شريكاً حدثني هذا الحديث، وهذا الحديث فيه تحريض على الخلفاء في ذلك الوقت وأمر بقتالهم إذا زاعوا عن الحق، وانحرفوا عنه وتركوا قصد السبيل وحادوا عن المنهج النبوي النبيل.

فقال المهدي لـ شريك: أفأنت حدثته بهذا الحديث؟ قال شريك: لا يا أمير المؤمنين كذب والله ما حدثته، قال ذلك الرجل -وهو أبو أمية -: يا أمير المؤمنين عليَّ الحج إلى بيت الله تعالى ماشياً وكل ما في ذمتي صدقة لله تعالى إن لم يكن حدثني بهذا الحديث، فقال لـ شريك: ما تقول أنت، قال: يا أمير المؤمنين وأنا عليَّ مثل الذي عليه إن كنت حدثته، فقال الخليفة: صدق، وزال ما في قلبه، فقال ذلك الرجل: يا أمير المؤمنين إنه يقول عليَّ مثل الذي عليك يعني عليَّ ثياب مثل الذي على أبي أمية، وليس يقصد أنه في ذمتي أن أحج إلى البيت الحرام ماشياً ولا أن أتصدق بمالي، فاطلب منه أن يحلف كما حلفت، فقال: صدق، احلف يا شريك مثلما حلف هذا الرجل، قال: لا والله لا أحلف بل ما جاءك هو الصحيح، أنا حدثته بهذا الحديث، فغضب الخليفة وقام يسب الأعمش لأنه روى هذا الحديث عن الأعمش، وكان الأعمش قد مات -رحمه الله- وقتها، فقال الخليفة يسب الأعمش: والله لو أعلم قبر هذا السكران لأحرقته، وصفه بأنه سكران وأنه يشرب الخمر، لأن الأعمش كان يتأول في بعض ألوان النبيذ الذي يتأول فيه أهل العراق، وليس من الخمر المسكر ولكنه من النبيذ الذي يسمونه هم بالمنَصَّف، فقال: والله لو أعلم قبره لأحرقته، قال: لا، يا أمير المؤمنين، والله ما كان يهودياً، بل كان رجلاً صالحاً.

الآن انظر كيف تحول شريك من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم، وبدأ يدافع عن هذا الرجل الفاضل الأعمش وهو إمام معروف مشهور؛ في وجه الخليفة، ويقول: ما كان يهودياً حتى تحرق قبره، وما أحرقت قبور اليهود، فلماذا يكون اعتداؤك وبلاؤك وعذابك للمؤمنين والأخيار والعلماء ورواة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقال: ما كان يهودياً كان رجلاً صالحاً، قال الخليفة: زنديق، قال شريك: لا، ولا هو بزنديق إن سيما الزنديق معروفة، فالزنديق يشرب الخمر، ولا يحضر الصلاة مع الجماعة، ويلعب مع القيان، يعني لو أراد أن يقولها صريحة لقال: المتهم أنت وليس هو، لأنك تشرب الخمر وتسهر مع القيان ولا تؤدي الصلاة مع الجماعة، فغضب الخليفة وهَمَّ به وقال: والله لأقتلنك، قال: إذاً تلقى الله تعالى بمهجة نفس قتلتها بغير حق، فقال: أخرجوه، فأخرجوه ثم تناوله الحراس يخرقون ثيابه وقلنسوته بالسهام، وخرج هذا الرجل من عند الخليفة سالماً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015