عطاء بن أبي رباح

القصة الخامسة: عطاء بن أبي رباح إمام أهل مكة وفقيههم وعالمهم ومفتيهم، كان عبداً نوبياً أسود ولكن الله تعالى أعزه بالعلم وكرمه بالطاعة، فسوده أهل مكة عليهم حتى كان الخليفة يأتي فيجده في المسجد يصلي، فيجلس إلى جواره ينتظر السلام ليسأله عن مسألة في المناسك، فإذا سلم عطاء سأله الخليفة فأجابه عطاء جواباً مختصراً ثم قام واستقبل القبلة وقال: الله أكبر، وأعرض عن الخليفة.

حتى قال الخليفة لأولاده: يا أولادي تعلموا العلم، فو الله لا أنسى ذلي بين يدي ذلك العبد الأسود وأنا أسأله عن مسائل العلم.

عطاء كان ملء سمع الدنيا وبصرها، وترجمته ترجمة حافلة مشهورة مشهودة، كان يوماً من الأيام يصلي في بيت الله الحرام، وكان هناك رجل من الحجاج قد نام، فجاءت الريح فدفعت ثوبه فظهرت منطقته، وهو الحزام الذي يتمنطق به وكان به ماله، فعدا عليه بعض اللصوص وأخذوه، فاستيقظ هذا الرجل فلم يجد أحداً، ثم تلفت فلم ير إلا عطاء قائماً يصلي، فجاء إليه وأمسك بتلابيبه وهزه هزاً عنيفاً، فقال له: يا كذا ياكذا أخذت مالي فلما ظفرت بك ووجدتك فزعت إلى الصلاة، يعني: ظن أن عطاء هو الذي أخذ هذا المال.

فقال عطاء: هل علم بهذا أحد؟ قال: لا، إلا أنت.

قال: هلم معي، كم في منطقك من المال؟ قال: مائتا دينار، قال: تعال أعطيك إياها ولا يعلم بذلك أحد، لأن عطاء قد خشي عليه أن يبطش الناس به حينما أذل عالمهم وإمامهم وفقيههم ومفتيهم، فذهب به عطاء إلى بيته وأعطاه مائتي دينار وقال له: اذهب في حال سبيلك، فلما رآه الناس سألوه عن الخبر فأخبرهم فقالوا: أتدري من هذا قال: لا، قالوا: هذا عطاء بن أبي رباح سيد من سادات التابعين، وإمام فقيه حجة ثبت.

فتعجب! وجاء إليه يعتذر إليه فقال: خذ المال، فقال: هيهات، أما المال فقد وهبه الله لك، وأما الحل فأنت مني في حل، فانظر إلى هذا الإمام كاد أن يبتلى بقضية، وكان من الممكن أن تُرَتَّب -لو وجدت مثل هذه المسألة- بعض الأجهزة المتخصصة في التشويه والتشهير، لرتبت منها قضية خطيرة وقالت ونشرت في الصحف وبالخط العريض: عطاء بن أبي رباح يقبض عليه متلبساً بتهمة كذا وكذا، سرقة الحجيج.

ولكان هذا مادة لعدد من التعليقات الإذاعية والإعلامية، بل وربما عُملت أشياء كثيرة من أجل تضليل الناس عن حقيقة هذا الخبر وهذا الأمر، وتشويه صورة هذا الإمام العالم الجليل، ولكن الأمر انتهى عند ذلك الحد، فانظر كيف تحمل عطاء رضي الله عنه ذلك الأمر، وعفا عن هذا الرجل، وأنهى هذه القضية؛ لأنه كان يعمل لله تعالى لا للناس، فليس يضره أن يتكلم الناس فيه ولا أن يعيبوه ولا أن يتهموه بما هو منه براء: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] .

وانظر إلى الناس كيف وقفوا إلى صف عطاء رضي الله عنه، وعرفوا هذا الرجل بحقيقته وطلبوا منه أن يذهب إليه ويتحلل منه ما دام الأمر ممكناً.

وانظر كيف انتهت القضية عند هذا الحد، وأصبح الناس يتندرون بهذه القصة، ويعرفون كم كان مبلغ هذا الرجل من الخطأ وكم كان هذا الرجل بعيداً عن العلم والمعرفة، إذ من هو الذي يجهل عطاء بن أبي رباح وهل يخفى القمر، كلا!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015