وقد حرص الإسلام على تحصين المجتمعات من عوامل الفساد؛ حتى لو وُجد فساد على مستوى فردي فالإسلام حريص على ألا ينتشر ليلوث البيئة، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، ثم يصبح، ويقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه وأصبح يكشف ستر الله عليه} لماذا الرسول صلى الله عليه وسلم توعد المجاهرين بهذا الوعيد؟ لأن المجاهر انتقلت المعصية من كونها معصية فردية تضر صاحبها إلى كونها معصية عامة تلوث البيئة، كلها فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على حماية المجتمع، ولذلك كان السلف يقولون: كما يقول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه: [[إن المعصية إذا سترت لن تضر إلا صاحبها، فإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة]] ولذلك جاء في شريعة الإسلام شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القضاء النهائي على المنكرات، لأن القضاء النهائي على المنكرات بحيث يكون المجتمع سليماً من المنكر بنسبة (100%) بعيد وغير ممكن، فحتى في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام كان هناك بعض من المنكرات لكنها قليلة مستخفية.
المقصود بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: إنما المقصود من شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقاية البيئة العامة من التلويث، لأن البيئة العامة إذا تلوثت أصبح من الصعب على الإنسان أن يستقم؛ لأنه -كما يقال- يسبح ضد التيار، انظر في شرائع الإسلام! لماذا شُرِع الإسلام، صلاة، الجمع، العيدين، الصيام؟ إن ذلك من أجل إيجاد مظهر عام وبيئة صالحة يتربى فيها الناس.
وأضرب لكم مثلاً ملموساً مشاهداً: نحن أدينا فريضة صيام شهر رمضان، وكان الناس خلال الشهر -كما هو معروف- لا يجدون مشقة كبيرة خلال تأدية الفريضة، فلا أحد يتعب من صوم الفريضة حتى الإنسان الذي لا يصوم طيلة السنة إلا الفرض تجد أنه خلال الشهر لا يتعب كثيراً، ويخرج يقول: والله ولله الحمد كنا متخوفين من الصيام هذه الأيام، فوجدنا أن الأمر يسير وسهل، والإنسان إذا عزم وجدّ يسر الله سبحانه وتعالى له وهذا صحيح.
لكن إذا أراد الإنسان أن يصوم الست من شوال، أو يصوم أيام البيض: الثالث عشر، والرابع عشر، والخامس عشر يجد صعوبة كبيرة في ذلك أصعب مما يجده في صوم الفرض، بل إنني أجد أن بعض الإخوة إذا صاموا الفرض لا يحسون بأي شيء، لكن إذا صاموا النفل يحس كثير منهم بالصداع، بل وبعض أعراض تتعبه حتى في جسمه، وهذا له أسرار كثيرة لا أستطيع أن أذكرها؛ لكني سأذكر منها سراً واحداً يتعلق بما نحن فيه وهو تأثير المجتمع، وذلك أن المجتمع في رمضان كله صائم، ولذلك أنت عندما تذهب إلى السوق لتجد حاجياتك، تجد أن الناس كلهم صائمون، في الشارع الناس صائمون، الطلاب والموظفون الكل صائم، في البيت الكل صائم، ولذلك لا يشعر الإنسان بشيء؛ لأن المجتمع كله يسير في نفس الاتجاه، ولكن فيما عدا ذلك الإنسان صائم لوحده أو مع أفراد قلائل، والمجتمع غير صائم، ولهذا يجد صعوبة، ولهذا نجد أن الطلاب الذين يسافرون إلى بلاد الغرب، ويصومون رمضان هناك، يجدون صعوبة في الصيام، وبعض الشباب يعودون إلى بلادهم لصيام شهر رمضان هنا من ضغط المجتمع، لأن المجتمع هناك مفطر فيضغط عليهم نفسياً ويضغط عليهم بوسائل أخرى بحيث إن الإنسان يجد مشقه في الصيام؛ لأنه يخالف المجتمع الذي حوله، وهذا يؤكد لك أهمية صلاح المجتمع في صلاح أفراده، وفي هذا الإطار -أيضاً- تأتي عناية الإسلام بالمظهر الخارجي بتقصير الثياب -مثلاً- بإعفاء اللحى، عدم التشبه بالمشركين إلى غير ذلك.
علاقة المظهر الخارجي بالصراع في المجتمع: بعض الناس الذين عندهم قصر نظر يقولون: ما هذا القصور الذي شغلونا به؟ لا يا أخي هذه القضية لها بعد كبير جداً؛ لأن هذه القضية من شأنها أن تحقق للمجتمع المسلم التميز والاستقلالية، وتحفظ المجتمع من الانهيار والمشي وراء ركاب الأمم الأخرى، أو التشبه بأمم أخرى بحيث يفقد المجتمع المسلم تميزه وصلاحه، وأصلاً المجتمع لا يلجأ إلى أخذ ما عند الآخرين إلا إذا شعر بالهزيمة والضعف، ولذلك عقد ابن خلدون في المقدمة فصلاً في اقتداء المغلوب بالغالب، الآن لا تجد أن الأعداء هم الذين يقلدوننا بل نحن الذين نقلدهم، لأننا في حالة هزيمة -كما يقولون- هزيمة حضارية، سبقونا في مجال العلم والتقدم الصناعي فأصبحنا ننظر لهم نظرة معينة ونقتبس منهم الكثير من الأشياء، فالإسلام حرص على تميز المسلم حتى في مظهره حماية ووقاية لهذا المجتمع.
اليوم نجد أن هناك حرباً على المجتمعات الإسلامية لتلويثها، فمثلاً عصابات المخدرات المنتشرة في العالم، عصابات المافيا وغيرها التي جندت نفسها لترويج المخدرات بالذات في البلاد الإسلامية، وبعض البلاد الإسلامية أصبحت مركزاً سواءً لتصنيع أو تهريب أو ترويج المخدرات بأنواعها، هذا نموذج من محاولة الأعداء تلويث المجتمع بحيث أنك تجد بعض الشباب في بعض البيئات أصبحت المخدرات قضية لا يجد فيها حرجاً، بل ربما يشعر بالنقص إذا لم يتعاط هذه الأشياء، فهو أحياناً يتعاطاها ليعبر أنه شخصية مستقلة، وأنه إنسان عنده كمال في شخصيته، وهذا أمر موجود عند بعض الشباب نتيجة الشعور بالهزيمة.
قضية الأجهزة والوسائل الإعلامية واستخدام الإعلام للتأثير على الناس، وقد ذكرت لكم أثره في تغيير الناس وسلوكهم، ولكن خذ على سبيل المثال: حينما ننظر في قضية من القضايا الاجتماعية نجد كيف استطاع الإعلام أن يغير سلوك الناس ويضغط عليهم، مثلاً قضية تعدد الزوجات نجد أنه لا يكاد يعرض مسلسل من المسلسلات في كثير من أجهزة الإعلام في البلاد الإسلامية يتعلق بموضوع تعدد الزوجات إلا ويكون الهدف من ورائه الحديث عن فشل موضوع التعدد، وأنه ينتهي بالرجل إلى الهروب من البيت وتحطيم الأسرة ترك الأولاد، مشكلات طويلة عريضة، وأن المرأة تذهب ضحية هذا التعدد، وما زال الضرب على هذا الوتر حتى أصبح مستقراً في نفوس الناس أن تعدد الزوجات أمراً خطيراً إلى آخره.
وبطبيعة الحال الحديث عن تعدد الزوجات ليس هذا ميدانه، فسلبياته وإيجابياته وحكمه يحتاج إلى حديث لا أريد أن أتحدث به الآن؛ لكن فقط أريد أن أضرب المثل حتى استقر عند الناس هذا الأمر، لكن وقوع الإنسان في الزنا والعياذ بالله قد لا يحمل نفس الخطورة، أو لا تحرص تلك الأجهزة على الحديث عن خطورته، ولذلك قد تقبل بعض النساء أحياناً أن تعلم أن زوجها قد يرتكب الفاحشة مع الخادمة، لكنها تقلب الدنيا رأساً على عقب - إن استطاعت- لو علمت أن زوجها يفكر مجرد تفكير في الزواج من امرأة أخرى، وهذا جزء أو جانب من تأثير أجهزة الإعلام.
وإذا كنا نسمع أن العالم اليوم يحضر لغزو البلاد الإسلامية بواسطة ما يسمى بالبث المباشر، فهذا جزء من تلك الحملة التي يهدف العالم فيها إلى تنصير المسلمين، لا مانع أن يكون هذا من أهم أهدافه من خلال برامج تنصيرية تعمل على زعزعة العقائد الإسلامية، وتحويل المسلمين إلى مرتدين على أقل تقدير إذا لم ينصروهم، محاولة نشر الأخلاق المنحلة والرذيلة بين المسلمين وهذا يتم الآن من خلال أجهزة الفيديو، ومن خلال الأفلام الهائلة.
فهناك مدن بأكملها مخصصه لنشر الفساد للإنتاج الفني -كما يسمونه- الذي تغزى به البلاد الإسلامية.
ولذلك عمل الأعداء على تكييف المنكرات بحيث لا تنكر، يصل المنكر ببعض المجتمعات الإسلامية إلى حد مستقر، ما عاد المنكر ضيفاً يرحل اليوم أو يرحل غداً، أصبح المنكر صاحب محل مستقر ولا يفكر أحد بإزالته، وربما يضحك الناس من إنسان لو فكّر في تغيير المنكرات، من هو الذي يفكر مثلاً بحرب الربا في البلاد الإسلامية؟ لا أحد يفكر، مجرد خواطر في نفوس الطيبين والصالحين، أما هذه المنكرات فقد استقرت وضربت بجرانها فأصبح الناس لا يفكرون بها، مثلاً أجهزة التلفاز يوماً من الأيام كان الناس أو بعضهم لهم موقف من هذه الأجهزة؛ لكن جاءت مرحلة أصبح كثيراً من الناس يرى أن الجهاز من الأثاث المكمل للبيت، وهذه قضيه لا تحتمل عنده جدلاً، ليس هذا فقط بل حتى ترك هذا المجال للنساء والرجال والكبار والأطفال والصغار ثم جاءت قضية الفيديو قطعت على هذا وهكذا تجد كثيراً من الناس تتطبع نفوسهم على المنكرات، ويصبح المنكر مستقراً لا يفكر أحد بحربه.