أقول: إنما تكلمت عن التطبيع في هذا المجلس لأسباب: منها: إن هذا التطبيع وهذا المصطلح الذي لابد أن يكون واضحاً في الأذهان، هو في الحقيقة هو الهدف الأساسي من عملية السلام، وإذا كان الأصوليون والفقهاء يقولون: "الحكم على الشيء فرع عن تصوره" فإن من السذاجة أن يحكم أحد على عملية السلام مع إسرائيل أو مع اليهود، أنها هدنة بين طرفين متحاربين، كما يتكلم الفقهاء عادة عن موضوع الحرب والسلام.
إنه لا يؤسفنا -أيها الإخوة- أن يتهالك على امتداح السلام وأطرافه ورموزه، بعض المنافقين والمرتزقة، فهم هكذا دائماً وأبداً وكما قيل: يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ وإن لاقيت معدياً فعدنان ولا يغيظنا أن يتكلم المنافقون والمرتزقة عن السلام، وأن يمتدحوه ويتحدثوا عن رابين، وعن رموزه ويعتبرون أنهم هم أبطال الأمة العربية، وهم رجال الموقف الذين أنقذوا الأمة في أحلك المواقف وأشد الظروف، فهذا هو دأبهم وهذا هو ديدنهم.
كما لا يغيظنا أن يتكلم اليساريون والقوميون الذين كانوا بالأمس يتظاهرون أنهم أعداء لإسرائيل، لأنهم ينطلقون من موقف خدمة الاتحاد السوفيتي الذي يتظاهر بالعداء لإسرائيل من باب المناورة مع المواقف الغربية، فإذا بهم اليوم يسودون صفحات جرائدنا ومجلاتنا المحلية وغير المحلية بالكلام عن السلام المزعوم والتطبيل له واتهام معارضيه بأنهم ليسوا واقعيين بل هم خياليون، أو أنهم متاجرون بالشعارات، فهؤلاء لا نجاة منهم بحال، فإنك إن وافقتهم قالوا: هذا عميل، وهذا مؤيد لإسرائيل، وإن خالفتهم قالوا: هذا متاجر بالشعارات.
وإني لأعجب -أيها الإخوة- من هؤلاء، وقد قرأت قبل زمن مقالاً لأحد هؤلاء وهو يتكلم عن أحد رجال الفكر الإسلامي، فإذا به يصممه بوصمة وهي أنه كان مؤيداً للسلام مع إسرائيل الذي قام به أنور السادات، وإذا به اليوم هو نفسه يتكلم عن الصلح مع إسرائيل على أنه ضرورة من ضرورات المرحلة لابد منها، وعلى أن هذا الأمر لا يعارضه إلا الذين لا يدركون الحقائق ولا يدركون أبعاد الأمور.
لكننا لا نخفي أسفنا من بعض المنسوبين أو المحسوبين على الدعوة الإسلامية الذين تورطوا من قبل في تأييد خطوات السادات الخيانية حينما ذهب إلى القدس للزيارة التي ظنوها مفاجئة، ولم يدركوا ما أبعادها وما وراءها من خطط ومراحل، وهم الآن يرفعون عقيرتهم لتأييد مؤتمر مدريد للسلام، وقد كان لهؤلاء في الصمت مندوحة إذا قصرت بهم أفهامهم عن إدراك أبعاد المؤامرة ومراميها.
أما أن يتكلموا عن قضية السلام ويؤيدوها وهم يستحضرون في أذهانهم الكلام الذي يقوله الفقهاء عن الهدنة مع عدو يعتقدون أنهم لا يستطيعون مواجهته ومقاتلته، فهذا أمر في غاية الغرابة، وهل بلغ بنا الغباء، هل بلغت بنا السذاجة أن نعتقد بأن السلام مع إسرائيل الذي يتحدثون عنه هو مجرد هدنة مؤقتة تضع الحرب خلالها أوزارها لسنة أو لعشر أو حتى لخمسين سنة؟ كلا، وألف كلا! إن السلام الذي يتكلمون عنه هو عبارة عن مسخ وتغيير للعقلية العربية والإسلامية أولاً، ثم عبارة عن ترسيخ لدعائم الوجود الإسرائيلي الموجود في هذه الأرض حتى يكون منطلقاً للعلم، والحضارة، والتقدم والصناعة، والاقتصاد، بل والأمن في المنطقة العربية، بل في المنطقة الإسلامية بأسرها، هذا هو السلام الذين يتكلمون عنه وهو في حقيقته التطبيع الذي أحاول أن ألقي عليه بعض الأضواء.