ومن صور تطلب الكمال مع عدم السعي في تحصيله أنك تجد الإنسان ينتقص الآخرين أحياناً أو يعكر على جهودهم، فمثلاً قيام دعوة إسلامية وانتشار الشريط الإسلامي؛ هذه ظاهرة إيجابية بكل المقاييس ولا شك في أن هذه، ظاهرة إيجابية، وإن كانت هذه الظاهرة بلا شك عليها سلبيات، فتجد إنساناً يقول لك: هذه الأشرطة في الواقع طيبة، ولكن يغلب عليها طابع سياسي، ودائماً تتكلم في موضوعات سياسية، وفي أحوال المسلمين، وغير ذلك.
وأنا قد أتحدث عن نفسي في هذا الجانب- وإن لم يكن هذا من الموضوع لكن الدفاع عن النفس مشروع، ومن حق الإنسان أن يدافع عن نفسه- فأنا أقول -مثلاً- حين تقول هذه الكلام: لماذا تغفل أكثر من مائة وثلاثين درساً في شرح بلوغ المرام؟ ولماذا تغفل عن أكثر من ثلاثمائة درس، بل ضعف هذا العدد في شرح البخاري ومسلم؟ ولماذا تغفل أحياناً عن أشرطة تصل إلى مائة في الدعوة والتربية والإصلاح، وبالجملة فإن الأشرطة التي تعالج موضوعات سياسية لا تتجاوز (10%) لكن من طبيعة الناس أنهم يتابعونها، ويسمعونها ويهتمون بها، فيتصورون أن فلاناً لا يقول إلا هذا الكلام، ولا يعرفونه إلا من خلال هذه الأشرطة.
على كل حال دعك من هذا الأمر، ولنفترض أن هذا الأمر نقص عندي أو عند زيد، أو عبيد من الناس: فإنسان فتح له باب من الخير، أو بورك له في شيء، ونفع الله به في هذا الجانب، لماذا لا تكمل أنت الجانب الآخر؟ ولماذا تفترض الكمال؟ وأن فلاناً إن تكلم فلا بد أن يتكلم في كل شيء، يمكن أن يكون الإنسان فقيهاً ولا يحسن التفسير، وآخر مفسر ولا يحسن في الحديث، وثالث محدث ولا يستطيع الخطابة، ورابع خطيب ولكن ليس عنده علم، وخامس يستطيع أن يقرر أمور العقيدة لكن لا يستطيع أن يقرر أمور الأحكام، وهذا من عمر الدنيا وهو موجود وقائم، فإذا وجد نقص عند فلان أو علان من الناس -وهو موجود بطبيعة الحال- فلماذا أنت لا تكمل هذا النقص الموجود عندهم، وتعتبر أنك أنت والثاني والثالث والرابع في مجموعكم يمكن أن يشكل منهجاً صحيحاً للناس؟ أما تصور أن فلاناً بذاته وبما يطرحه هو منهج متكامل فهذا مطالبة بما لايطاق ولا يمكن.
مثال آخر من انتقاص الآخرين: تتحدث عن المسلمين في يوغسلافيا وضرورة دعمهم، أو المسلمين في روسيا، ويأتيك إنسان ويقول لك: يا أخي هؤلاء عندهم معاصي ويشربون الخمور، وبعضهم لا يصلي، والنساء متبرجات إلى آخره.
فنقول: هذا الأمر جزء كبير منه موجود بسبب أن هذه البلاد ظلت زماناً طويلاً تحت تسلط الشيوعية، وتحت تسلط الكفر، وحيل بينهم وبين المسلمين، فلا تعليم ولا دعوة ولا إصلاح، ومن الطبيعي أن إنساناً يعيش في مثل هذه الأماكن أن تكون هذه هي النتيجة، لكن لديهم من الرغبة في العلم الشيء الكبير، حتى إن بعض الإخوة الذين ذهبوا إليهم يقولون: إذا رأونا جلسوا بين أيدينا لا يعرفون لغتنا، فلا يملكون إلا البكاء والدموع، واستعدادهم للتعلم عجيب، وليس لديهم أي لون من ألوان التعصب، والله تعالى أعلم.
فلديهم استعداد للتعلم، فلماذا بدلاً من أن تكون القضية قضية تنقص لهؤلاء وأن فيهم وفيهم، فبدلاً من هذه الحيلة النفسية التي نقنع بها أنفسنا ألا نعمل ولا نساعد، لماذا لا نقوم نحن بدعمهم؟ ومن دعمهم تعليمهم دين الله عز وجل، وأمرهم بالمعروف بالحسنى، ونهيهم عن المنكر بالحسنى، والتسلل إلى قلوبهم ومساعدتهم مادياً وإنسانياً وإغاثتهم، ومساعدتهم بالسلاح أيضاً والوقوف معهم بالنفس والمال حتى نستطيع أن نخرجهم من محنتهم، وأن نجعلهم مسلمين أقوياء صالحين.
فهذه حيلة نفسية أنك تنتقص هذا الإنسان أو تنتقص هذا الجهد، أو تنتقص هذا الطريق، أو تنتقص هذا المنهج لتبرر لنفسك ترك العمل، وبشكل عام لا نعذرك أبداً أن تنظر إلى الجانب السلبي وتترك الجانب الآخر.
وأضرب لك مثلاً بسيطاً وبعيداً عن الموضوع، لكن من أجل أن تدرك: إنسان خرج من صلاة الفجر، فلما خرج مر، فوجد شخصاً آخر قد خرج لتوه من صلاة الفجر، وهو يقلم أشجار الحديقة أو المنزل، فقال هذا الإنسان: فلان مسكين ما وجد شيئاً يشغل وقته إلا أن يقلم الأشجار! لماذا لا يذهب ليقرأ القرآن في المسجد؟ نقول: قراءة القرآن أفضل من تقليم الأشجار، ولا شك في هذا، لكن تقليم الأشجار عندنا أفضل من النوم، وأنت ذاهب للفراش، فلماذا تنتقد ذلك الشخص؟ فلا بأس أن توجهه، لكن أيضاً لا بد أن توجه نفسك وتنتبه إلى أنك ذاهب إلى عمل أقل قدراً حتى من تقليم الأشجار الذي تنتقد به صاحبنا.