أما السجن فلا يعنيني في قريب أو بعيد، فأمره سهل وأتذكر قول الله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] يشعر الإنسان كأنه يزور بلداً لأول مرة، وبلد تزوره لأول مرة فيه العجائب والغرائب والمفاجآت، والأمور التي تستفيد منها وتضيفها إلى معلوماتك، فتجدد إيمانك وعقلك، ويقينك، فرصة أن تهرب من زحام الناس وكثرتهم وحطمتهم وأسئلتهم، أن تهرب وقتاً اضطرارياً تخلو فيه بنفسك، ثم تخلو بربك، وتجرب نفسك، وصبرك وعبادتك، وإيمانك وقربك من الله وصدقك، وقدرتك على تحمل تبعة ما تدَّعيه أو تقوله من إصلاح أو تغيير في أحوال الناس، فهو جزء من الطريق، بل له فوائد كثيرة جداً، فهو ضريبة الحق، والسنن الجارية على من كان قبلنا، وهو الطريق إلى تصحيح الأوضاع ولا شك في ذلك، بل إنني أطمع وأرجو أن يكون ذلك تفجيراً للطاقات الكامنة في الأمة، لأننا نحتاج إلى أعداد غفيرة من الدعاة والمصلحين والمجاهدين في هذا السبيل، من الذين يصبرون ويصابرون ويرابطون ويراقبون الله لعلهم يظفرون بالفلاح في الدنيا وفي الآخرة.
الأمة تحتاج إلى أعداد كبيرة، ونريد أن تخرج هذه المواهب، وأولئك الرجال، وأن يقوموا بدعوتهم ويصححوا أوضاعهم، ويجتهدوا في الإصلاح بقدر ما يستطيعون.
فالقضية ليست قضية شخص بعينه فلان أو علان عالم أو داعية أو مسئول، بل القضية قضية الأمة بكاملها.
فيا رجال الأمة! يا دعاة الأمة! يا شباب الأمة! يا خبراء الأمة! أياً كنتم وأياً كانت مستوياتكم، كلكم جميعاً مطالبون أن تكونوا دعاة إصلاح، ودعاة تغيير نحو الأفضل، وتصحيح لكل فاسد، واحتساب على جميع ألوان المخالفات الشرعية، سواء أكانت مخالفات تتعلق بعلاقة الناس مع ربهم، أم علاقة بعضهم ببعض حكاماً أم محكومين، كباراً أم صغاراً، رجالاً أم نساء.
يجب أن تتفجر طاقات الأمة ومواهبها، وينبغي أن يخرج للأمة رجالها، فالله تعالى لم يجعل دينه رهناً لأحد، حتى شخص محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] أما من دونه من الناس حتى لو كانوا علماء أو كباراً، فالأمر لا يتعلق بهم، أما أمثالنا فضعفاء لا نقدم ولا نؤخر لكنها كلمة استدعاها المقام، فهذا الحدث وقبله أحداث كثيرة وبعده؛ تؤكد المعنى الذي لا زلنا ندندن حوله منذ سنوات وهو أن مهمة الإصلاح ينبغي أن لا تكون مرهونة بأفراد يذهبون أو يجيئون يثبتون أولا يثبتون يصبرون أو لا يصبرون يحيون أو يموتون يخطئون أو يصيبون، بل مهمة الإصلاح ينبغي أن تكون الأمة كلها قيّمة عليها، حتى هذا المصلح إذا أخطأ يحب أن تعترض عليه الأمة وتصحح له خطأه، فلا أحد عندنا معصوم، ولا أحد مقدم من البشر خلا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهم معصومون فيما يبلغون عن الله تعالى، أما الأمة فلا ينبغي أن ترهن نفسها في شخص بعينه، والأمة -والحمد لله- موجودة وحية، ولهذا ينبغي أن تمارس مهماتها وأدوارها وأعمالها وصلاحياتها دون أن ترهن نفسها لرأي فلان أو علان، أو لقول زيد أو عبيد من الناس، فهو يعبر عن رأيه وقد يكون خطأ أو صواباً، مجتهداً أو غير مجتهد، لكن ليست الأمة ملزمة بهذه الآراء، كل إنسان ينبغي أن يجتهد ويسعى في الإصلاح، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله تعالى بقدر ما يستطيع، وهو مسئول بحسب إمكانيته واجتهاده، وبحسب ما أراه الله تعالى.
نعم.
كم في السجن من نِعَمْ، ومن مواهب، وكم فيه من بركات وخيرات -نسأل الله تعالى بحوله وقوته وقدرته وعظمته وجلاله وكرمه أن لا يحرمنا منها-.
نعم.
ليست العبرة بكبر المساحة أو صغرها، أو التكييف أو المأكل والمشرب، أو نوع المعاملة، بل العبرة بإفاضة الله الخير عليك، فإن أهل الكهف كانوا في كهفهم، ومع ذلك يقولون: {فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16] تصور هذا الكهف الصغير تنتشر فيه رحمة الله تعالى، والنشر يدل على معنى واسع مع أنه في كهف ضيق، لكن بركة الله تعالى لا حد لها، ورحمة الله تعالى وسعت كل شيء -نسأل الله أن يشملنا بعفوه ورحمته- إذاً المسألة مسألة دين ودعوة، واعتقالنا جزء من مشكلة ضخمة هي -أولاً- مشكلة جميع المعتقلين منذ سنين طويلة، فإنه ليس أحد يعتقل بموجب نص صريح يبيح اعتقاله، بل لا أبالغ إن قلت: إن كثيراً من المعتقلين قد يدخل ويخرج وهو لا يدري لماذا دخل ولا لماذا خرج!! أما الناس فمن باب أولى أيضاً ألا يدروا لماذا دخل فلان ولا كيف خرج.
فهذه قضية يجب أن يكون لها حل، وإن كان الجانب الشخصي فيها -كما ذكرت- لا يعنيني على كل حال، فالأمر أيضاً أوسع من ذلك، والمسألة مسألة دين، ودعوة، وإصلاح المجتمع بكل جوانبه -كما سبق أن تحدثت وأطلت- هذه بعض المعالم والأفكار والخواطر التي جالت في ذهني فأحببت أن أفيضها لإخواني، قد ينقصها الترتيب والإعداد، لكنني أحببت أن أبوح بها أمانة أرسلها إلى كل من يريد أن يعرف هذه القضية، وأسأل الله تعالى أن يوفقنا لخير الدنيا والآخرة، وأن يجعل ما كتب لنا خيراً في الدارين إنه على كل شيء قدير.
ولا يفوتني قبل أن أنهي هذه الكلمة أن أوصي جميع إخواني الذين يستمعون إلى هذا الكلام بالدعاء الصادق المخلص لإخوانهم، وأنا من إخوانهم أيضاً، فأوصيهم بالدعاء لشخصي الضعيف، ولكل إخوانهم في الله تعالى في مشارق الأرض ومغاربها.