فالدعاة إلى الله تعالى يبرءون من جميع المصالح والحظوظ الشخصية، بل هم يتنازلون عن حقوقهم الخاصة من مرتبات أو أعمال أو أموال أو وظائف، فإنهم لا يطالبون بها ولا يرون أنها بالنسبة لهم قضية تستحق أن يثار حولها كلام طويل، وليس يضيرهم ولا يزعجهم هذا، وليست قضيتهم أن يوجد من يعتدي عليهم أو من يؤذيهم أو يسجنهم أو يتجسس عليهم أو يطاردهم، هذه أيضاً ليست هي قضية الدعاة أبداً.
إنما الدعاة يطالبون بقضية تخص الأمة والبلاد من شرقها إلى غربها، تخص المنطقة الجنوبية وتخص المنطقة الشمالية، وكما تخص المنطقة الشرقية كما تخص المنطقة الغربية، وتخص المنطقة الوسطى، بل إنها تخص هذه البلاد وتعم كل مسلم يعنيه أمر الإسلام والمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.
فالقضية هي قضية الامتثال لشريعة الله تعالى التي جاءت بالعدل وجاءت بالمساواة، وجاءت برفع الظلم، وجاءت بتحقيق المطالب الإنسانية، وجاءت بحفظ كرامة الإنسان وحقه، فلا يُعتدى عليه ولا يظلم ولا يبخس حقه، ولا يهضم، ولا يتجسس عليه، ولا يوقف بغير بينة وبغير نص، ولا يحقق معه إلا بنص، ولا يحق لأحد أن يتجسس عليه أو يتلصص على مكالماته، أو خصوصياته أو مراسلاته، أو محادثاته، إلى غير ذلك، ليس الدعاة بل الأمة كلها، كل إنسان مسلم ومواطن من المسلمين له هذا الحق.
ولذلك فليست قضية الدعاة قضية شخصية وإنما هي قضية تهم الأمة كلها من أولها إلى آخرها، أما الدعاة فقد آن الأوان ليعلنوها للناس كلمة صريحة، العدو والصديق القريب والبعيد الحاكم والمحكوم من يعرفهم ومن لا يعرفهم: لا نسألكم عليه من أجر، لا نسألكم عليه مالاً.
إن رأيتمونا يوماً من الأيام طلاب جاه، أو طلاب شهرة، أو طلاب منصب، أو طلاب مال، أو طلاب وظيفة، فاحثوا في وجوهنا التراب، واعتبروا هذا آية على عدم مصداقية ما ندعو إليه، نحن دعاة حق نرى أنه يجب أن يدعو إليه الجميع، ويجب أن يلتف عليه الجميع، ويجب ألا تسقط هذه الراية بحال من الأحوال، لأنها الراية التي تسعى إلى إعادة الحقوق إلى أهلها، سواء كانت هذه الحقوق حقوقاً معنوية، مثل كون الإنسان يعرف ما يخصه، هو فرد من الأمة له الحق أن يعرف لماذا حصل كذا، ولماذا اتخذت الأمة هذا الموقف، ولماذا حاربت هذا، ولماذا سالمت هذا، ولماذا عادت هذا، وما هي الأشياء التي ستفعلها، هو فرد من الأمة من حقه أن يعرف ما يخصه، ولا يجوز أبداً أن يعتم عليه، أو يضلل، أو يعمى؛ بحيث يعتبر أنه قاصر العقل، والفكر، ليس على مستوى أن يدرك أو يفهم، ولهذا ينبغي أن تكون الأمور في ظنهم أسراراً وطلاسم لا يعرفها إلا نفر قليل، أما الباقون فمن حقهم أن يقرءوا -مثلاً- في الجرائد أو يسمعوا من الإذاعة، وما قرأوا أو سمعوا، فليعتبروا أن هذا هو الكلام الذي يجب أن يقوله حتى لو لم يؤمنوا به ولو لم يصدقوه، ويجب أن يرددوه ويجيبوا به.
إذاً أين عقول الأمة؟ أين أفكار الأمة؟ أين المختصون؟ بل أين الآلاف المؤلفة من الدكاترة والفضلاء والأساتذة وطلاب الجامعات والمتخرجين الذين بذلت أموال طائلة من أجل إعدادهم وتعليمهم وتخريجهم؟ فما معنى -بعد ذلك- أن يحازوا ويحصروا ويقال لهم: إن عقولكم في إجازة مفتوحة، ليس من حقكم أن تفهموا، ولا أن تسألوا، وتناقشوا، وتشاركوا، ولا أن تشيروا، هذه مصادرة لحقوق معنوية كبيرة للأمة لأن الإنسان إنسانيته ليست بجسمه، كما قال القائل: أقبل على النفس فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان وقول الله أبلغ: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] .