ولا زلت أقول بعد ما حصلت هذه الجلسات في المنزل: إنني كنت واضعاً في اعتباري أنه ربما يترتب على ذلك ما يترتب عليه من آثار، أي قيمة وأي معنىً لوجود الإنسان إذا كان من غير رسالة يحملها ويؤديها؟! هب أنك حر طليق تأكل وتشرب وتنام وتذهب وتجيء لكنك لا تقوم بأداء المسئولية العلمية والشرعية والاجتماعية التي تشعر أن الله تعالى حملكها ووضعها على عاتقك بحسب ما أعطاك: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:165] .
إذاً ليس في الأمر غرابة، والسجن أمر طبيعي مألوف، ويجب أن نضع في اعتبارنا -يا كل المخلصين، ويا كل الصادقين، ويا كل دعاة الإصلاح، سواء أسرَّوا أو أعلنوا- يجب أن نضع في اعتبارنا أن الفساد المتجذر في مجتمعنا وفي جميع مجتمعات المسلمين بنسب متفاوتة؛ فساد يضرب برواقه على كل مجالات الحياة بدون استثناء، فساد في مجال التعبد، وفي مجال الأخلاق، وفي مجال السلوك، وفي المعاملات، فساد في الاقتصاد والسياسة والإعلام والتعليم.
إن هذا الفساد الشامل يتطلب إصلاحاً كاملاً، ومن الخطأ أن نتصور أن الإصلاح سيتم عن طريق مجرد الكلام، أو مجرد أن نحمل قلوباً طيبة، أو تصورات سليمة فقط دون أن نتحمل في سبيل الكلمة التي قلناها أو التصور الذي حملناه ولو بعض الأذى والعناء! إن هذا الفساد الموجود -والذي لا يشك فيه أحد على الإطلاق وإن اختلفت الطرق في إصلاحه- له أنصار كثيرون، وله متحمسون، وسدنة، وله أرباب من البشر يرون بقاءهم في بقائه، ووجودهم بوجوده، وأن زواله كشف لهم، ولذلك فهم ضد كل مصلح يسعون إلى التأليب عليه ويحاربونه بكل وسعهم، ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، فهذه سنة الله تعالى.
أقول: لا غرابة وإن كانوا ملومين لمخالفتهم شريعة الله ومخالفتهم للحق والله تعالى يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ} [الفرقان:31] وكذلك يقول: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} [الأنعام:112] .
إذاً الصراع صراع بين الحق والباطل، بين الإصلاح والفساد، بين الهدى والضلال، بين العدل والظلم، وهو صراع أزلي، ولابد أن نوقن ونعتقد بأن أي داعية إصلاح يحتاج إلى أن يبرهن على صدقه وإخلاصه، وأنه لا يريد مطمعاً دنيوياً، وأنه صادق في دعوته، وأنه مستعد أن يبذل ويضحي في سبيلها، لا بد أن يبذل ما يكون عربوناً وبرهاناً للناس فيكون ذلك شاهد عدل على ما سمعوه بآذانهم.
ربما يسمع الناس كلاماً معسولاً جميلاً في الأشرطة والمحاضرات والدروس، أو في البرامج أو الندوات وغيرها، وربما يكون الكلام بحد ذاته حلواً مؤثراً مقبولاً؛ لكن ما هو البرهان على أن هذا المتكلم صادق فيما يقول؟ وما هو البرهان على أنه مخلص؟ وما هو البرهان على أنه متجرد عن الهوى؟ وما هو البرهان على أنه بقدر الكلام الذي يقوله؟ البرهان هو أن يعزز قوله بفعله، وأن يصبر ويصابر، وأن يتحمل مسئولية الكلمة التي قالها مهما كلفه ذلك من تضحيات، فينبغي أن نضع ذلك في بالنا، وما لم يكن الأمر كذلك فإنه لا يتصور أبداً أن يقع إصلاح أو تعديل حقيقي.
إننا نعلم جميعاً أن إصلاح خلل جزئي في مكان معين: في مدرسةٍ، أو شخص غير كفء، أو في أي وضع من الأوضاع مهما كان يسيراً، هذا الإصلاح يتطلب مجهوداً ضخماً، وقد ينجح وقد لا ينجح، فكيف نتصور أن إصلاح الأمة كلها في مجالاتها وأنشطتها المختلفة أنه لن يكلفنا أكثر من كلمة نقولها، أو ورقة نكتبها، أو برنامج نقدمه، أو شريط نسجله، هذا لا يمكن أن يكون.
ثم إننا نعلم جميعاً أن الغش والفساد محرم في كتاب الله تعالى وفي حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى في أصغر الأمور، فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يبيع تمراً فلما قلبه وجد أن أسفل التمر قد أصابه الماء، فقال: {ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا} كما في صحيح مسلم، فإذا كان الغش في زنبيل من التمر أو غيره حرام، بل يصل إلى أن يهدد الرسول صلى الله عليه وسلم فاعله بأنه يخرج من سيماء المؤمنين وعلاماتهم وأوصافهم، فما بالك إذا بدأت الأمة كلها تمارس الغش في مؤسساتها ومجالاتها المختلفة وجوانبها! فحينئذٍ يكون السكوت عن ذلك نكولاً عن الحق، وتراجعاً وضعفاً وخوراً، ولا يمكن أن ينجو من العذاب قوم هذا شأنهم، إلا أن يصدعوا بالحق، ويصيحوا في الناس، فحينئذٍ تكون النجاة بإذن الله تعالى للجميع، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فإذا كنا مصلحين نجونا من عذاب الله تعالى، وإلا ألم بنا العذاب وحلت بنا الكارثة.