قوله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] أيضاً لها سياق، وهو في قصة قوم صالح: {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [النمل:49] أي: نقتله ونقتل أهله في الليل بياتاً {ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [النمل:49] أي: ليس عندنا خبر عن الموضوع.
هذه خطة وهذا مكر البشر الضعيف الهزيل، يستسهل بالأمر فيفضحه الله عز وجل، يخطط لشيء فيحبط الله خطته وما سعى إليه.
فهذا مكرهم؛ أنهم يقتلونه ثم ينكرون ذلك، فقال الله عز وجل: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:50] مكرهم كبير، لكن مكر رب العالمين أكبر {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:51-52] .
هذا هو الفرق بين مكر الله ومكر العباد هم قد خططوا واجتمعوا بالليل سراً وتقاولوا واتفقوا على قتل النبي وقتل من معه وإنكار ذلك وجحوده، لكنه ما تم ولم يستمر، انظر كيف كان عاقبة مكرهم! لكن مكر رب العالمين ظهرت آثاره: أنا دمرناهم وقومهم أجمعين.
ولذلك قد يخطط العبد الخطط، وقد كتب الله عز وجل أن يقبض روحه قبل أن توضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وقد تخطط أمة من الأمم وقد كتب الله عليها الانهيار قبل أن تحقق ما تريد، وقد يشتغل قوم وقد كتب الله لهم الخسف أو الزلزال أو المسخ أو الريح العاصف أو الطوفان أو الفيضان أو الغرق وهم لا يشعرون قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر:31] .
فالخلاصة: أن معنى هذه الآيات كما في قوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً} [النمل:50] {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ) [آل عمران:54] ((وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال:30] أن الله عز وجل يوصف بالمكر وصفاً مقيداً، أنه يمكر بأعدائه، يمكر بالماكرين، يمكر بالكافرين، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً.
وكذلك قوله عز وجل: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] ومثله قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق:15-17] فهو يثبت الكيد لله عز وجل بمن يكيد لرسله وأنبيائه وأوليائه والصالحين من عباده.
ويكيد أيضاً للصالحين، بمعنى: أنه يصنع لهم صنعاً خفياً مما تكون فيه نجاتهم.
ولعل من الآيات التي ذكرتْ ذلك قوله تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ} [يوسف:76] فإن الكيد هو التدبير اللطيف الخفي، الذي قد لا يدركه الإنسان، فكذلك الله تعالى كاد ليوسف، بمعنى: أنه كاد كيداً له لمصلحته ولخيره، فكان يقع ليوسف عليه السلام كثير من الأمور التي يظنها الناس شراً، مثل ترك إخوته وإلقائهم له في الجب، ومضايقته وبيعه، وكونه في قصر العزيز، ومراودة امرأة العزيز له عن نفسه، وسجنه إلى غير ذلك، ثم تبين أن هذا كله كان من تدبير الله عز وجل التدبير اللطيف الخفي ليوسف عليه الصلاة والسلام.