انتقل المصنف رحمه الله إلى نوع آخر من الآيات الكريمات المتعلقة بالمكر والكيد والمحال، والمحال: اختلفت عبارة السلف في تعريفه، فقال بعضهم: البطش، وقال بعضهم: الكيد والمكر، وهذا هو المتبادر، أي: شديد المكر والكيد بأعدائه.
ومكره عز وجل وكيده بأعدائه يأخذ صوراً شتى؛ فإنه عز وجل يوصف بهذا وصفاً مقيداً لا وصفاً مطلقاً، مثل المحال والكيد والمكر، فهذه يوصف الله تعالى بها وصفاً مقيداً، فيقال: يمكر بأعدائه، أو يمكر بمن يمكر به، أو يمكر بمن يمكر بالمؤمنين، وما أشبه هذا، ولا يوصف بذلك وصفاً مطلقاً؛ لأن هذا ليس من الأسماء الحسنى، ولا من الصفات العلى التي يوصف بها بإطلاق، كالكرم والقوة والعزة وما أشبه ذلك، بل هذا يحمد في حال ويذم في حال؛ ولهذا لا يوصف الله عز وجل به على سبيل الإطلاق، وليس من الأسماء الحسنى.
وكذلك لا يشتق له عز وجل منها اسم ولا صفة مطلقاً، فلا يقال من أسمائه الماكر مثلاً ولا الكائد، بل حتى الأشياء التي ليست مدحاً محضاً ولم ترد في الكتاب والسنة، فإنه لا يسمى بها، فلم يرد -مثلاً- في أسمائه عز وجل أنه المتكلم ولم يرد في أسمائه المريد، وإن كان متكلماً يتكلم متى شاء عز وجل بما شاء، وإن كان فعالاً لما يريد، يريد ما شاء ويفعل ما يريد، ولكنه لم يرد وصفه بذلك في الكتاب والسنة.
وأشد من ذلك: الكيد والمحال والمكر، فإن الله عز وجل لا يوصف بها وصفاً مطلقاً، وكذلك لا يشتق له منها اسم، فلا تقول من أسمائه الماكر أو الكائد؛ لأن المكر منه حسن وقبيح، ومنه محمود ومنه مذموم، فأما المكر بالماكرين من الكافرين والمستهزئين والفجار وأشباههم فهو محمود، وهو الذي ذكره الله عز وجل عن نفسه، وأما ما سوى ذلك فهو مذموم.
ولهذا لم يرد المكر والكيد وما أشبههما في الكتاب إلا مقيدة، ولهذا قال الله عز وجل هاهنا: {وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} [الرعد:13] في سياق صنيعه عز وجل بأعدائه وأعداء رسله، أي أنه شديد المكر والكيد بهم.
ومن مكره بهم جل وعلا وكيده لهم: أنه يستدرجهم قال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [الأعراف:182] ويملي لهم {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] حتى إذا أخذهم أخذهم أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ، كما قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] وكما قال: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:42] .
وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته} وكما قال سبحانه في غير موضع: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:182-183] وكما قال: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران:178] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة، التي ذكر الله عز وجل فيها أنواعاً من كيده ومكره بأعدائه ومحاله بهم، أنه يماحلهم ويمكر ويكيد بهم عز وجل؛ لكفرهم وعتوهم وفسادهم ومناوءتهم لأنبيائه ورسله والصالحين من عباده.