انكشاف الخلق لله

قوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] هذه الآية من سورة التوبة وهي خطاب للمنافقين، الذين {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:9] فيقول: وقل اعْمَلُوا أي: اعملوا ما شئتم، وعلى أنه خطاب للمنافقين، فهذا الأمر أمر تهديد ووعيد، كما في قوله عز وجل: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] وكقوله صلى الله عليه وسلم: {إذا لم تستح فاصنع ما شئت} .

فيقول الله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] فأما رؤية الله عز وجل للعمل، فهي متحققة حال وقوعه، فإنه يقع برؤية من الله عز وجل، ويراه سبحانه حال وقوعه، هذا فضلاً عن علمه بهذا العمل قبل وقوعه، وعلمه به علم تحقق وقوعه بعدما يقع، وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى يكشف له صنيع هؤلاء، ويريه عملهم ويفضحهم.

وكذلك رؤية المؤمنين لهم في الدنيا بأن يعرفهم الله عز وجل على أعمال هؤلاء المنافقين، وقد يكشف لهم ما خفي من أمرهم؛ كما يحدث كثيراً أن الإنسان قد يستخفي بعمله حيناً من الدهر، ثم يفضحه الله في عقر داره.

ومهما تكن عند امرئ من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تعلم وقد جاء في حديث مرفوع وفيه ضعف: {ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على فلتات لسانه وعلى قسمات وجهه} وهذا مشاهد، فكم من إنسان يخادع ويتستر، لكن الله عز وجل يكشفه للمؤمنين، ويظهر حقيقة عمله، فهذا تحقق رؤية المؤمنين لهذا العمل في الدنيا.

وأما في البرزخ فقد جاء في آثار أيضاً فيها نظر؛ أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الأموات.

وأما في الآخرة: فالأمر حينئذ لا خفاء فيه ولا شك قال الله: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] فإن العبد يومئذ مكشوف، وكل شيء منه مكشوف، بدءاً ببدنه الذي لا يستره ساتر كما قال صلى الله عليه وسلم: {تحشرون يوم القيامة حفاة عراة غرلاً بهماً} وكما قال تعالى: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104] .

فهو مكشوف الجسد مكشوف السريرة: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ} [الطارق:9-10] مكشوف الماضي كله {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] وقال: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران:30] وقال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:12-13] .

فيراه الناس ويسمعون ماذا عمل وماذا أخذ وماذا ترك، وأنه شقي أو سعيد، اللهم إلا المؤمن التائب؛ فإن الله تعالى يستره بذنبه حتى إذا وافى يوم القيامة قال الله عز وجل له: كما في حديث النجوى -حديث ابن عمر - {فعلت كذا فعلت كذا، قال: يا رب سترتها عليَّ في الدنيا فاغفرها لي، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم} ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه! وأما الكافر أو المنافق فكما أخبر تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] فيكون في ذلك فضيحة لهم وكشف لما كانوا يكنون في الدنيا {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة:105] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015