التزام العالم بالمواقف البطولية خير معلم

موقف آخر: ولعله قبل الأخير، وهو أن الأمة خاصة في أزمنة الفتن والضعف كهذا الضعف الذي نعيشه الآن وكالضعف الذي كان في زمن العز بن عبد السلام حيث تسلط عليها التتار من جهة، والصليبيون من جهة، والضعف الداخلي من جهة ثالثة، والتفرق والتمزق إلى غير ذلك؛ كانت تعيش وضعاً شبيهاً نوعاً ما بالوضع الذي نعيشه الآن، فكان السؤال الذي يطرح نفسه: من الذي يحمل الراية؟ الأمة كلها في حيرة تريد أحدا يحمل الراية ويقول: أنا لها، حتى تسير الأمة كلها، ويسير العلماء، وطلاب العلم والدعاة وراءه.

إن العز بن عبد السلام رضى الله عنه تربى على يد علماء فيهم قوة مثل فخر الدين بن عساكر الذي كان في دمشق وألزموه بالقضاء، فرفض القضاء ثم وليه بعد جهد جهيد، ولم يدم فيه، وكان هذا الرجل قوياً في الحق حتى إنه أنكر على حاكم دمشق أنه كان يضمن الناس الخمر والمكوس التي يتلفونها، فإذا أتلفوها طلب منهم الضمان فأنكر عليه ابن عساكر هذا الأمر، فهذا من شيوخ العز بن عبد السلام.

ومن شيوخه أيضاً رجل اسمه عبد الصمد الحرستاني وهذا أيضاً ألزم بالقضاء، فلما ألزموه به صار فيه على طريقة السلف الصالح على الجادة، وفي إحدى المرات كان في مجلس القضاء فجاءه خصمان، فأحدهما قدم له ورقة خطاب، فأخذ الخطاب وجعله في الدرج، ثم قال: ماذا عندك، وأنت ماذا عندك، فسمع كلام الخصوم، ثم بعد ذلك حكم لهذا، ثم فض الخطاب، فلما فض الخطاب قرأه وإذا هو خطاب من الحاكم يشفع فيه لهذا الرجل الذي حُكم عليه أن حاول أن تنظر في أمره وأن تجعل الحق معه، فألقى بالكتاب في القمامة، وقال: قد غلب كتاب الله كتاب هذا الرجل، حكمت قبل بالحق ولا أحكم بالباطل بمجرد أنه أتاني خطاب من السلطان! فذهب هذا الرجل إلى الحاكم يظن أنه سينتصر له، وقال له: حصل كذا، وكذا، فقال: صدق، كتاب الله مقدم على كتابي.

فما دام حكم بالشرع بالكتاب والسنة، فهل يرجع عن الكتاب والسنة لكتابي؟! هو صادق فيما قال.

فكان هذا من شيوخ العز بن عبد السلام وعلى يد هؤلاء العلماء تعلم العز بن عبد السلام دروس القوة، والشجاعة، والغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

ومن بعد العز بن عبد السلام تلقى على يديه رجال من أمثال ابن دقيق العيد مثلاً، فقد عزل نفسه من القضاء مرات فكل ما حصلت مشكلة يعزل نفسه عن القضاء، ويقول: ما لي به حاجة، أنتم ألزمتموني به ولا أحتاجه، ثم يعزل نفسه عن القضاء، وقد حصل لـ ابن دقيق العيد موقف مشابه لموقف شيخه العز بن عبد السلام، فإن السلطان محمد بن قلاوون أراد أن يجمع المال لحرب التتار من الناس ولو بالقرض مثلما فعل قطز من قبل.

فجمع العلماء، فقال له ابن دقيق العيد: لا يمكن أن تأخذ الأموال من الناس إلا بعد أن تجمع الأموال من السلاطين، والأمراء، ومن حريمهم، حتى قال له: إن منكم -من أمرائكم- من جهز بنته لتزف إلى زوجها وعمل في حفلها الجواهر، واللآلي، والحلي الفاخرة، وجعل معها الأواني من الذهب والفضة، وإن منكم من رصع مداس زوجته بالجوهر، فإذا أتيتم بهذه الأموال ولم تكف فبعد ذلك ننتقل إلى أموال الرعية.

فهو موقف مشابه يذكرنا بموقف العز بن عبد السلام.

إذاً القضية -أيها الأحبة- قضية تربية، العز تلقى هذه الشجاعة والقوة في الحق من مثل ابن عساكر وعبد الصمد الحرستاني وأدى الأمانة إلى من بعده كـ ابن دقيق العيد وغيره من التلاميذ.

وهكذا أقول: يجب على طلبة العلم والمعلمين اليوم ألا يحرصوا على حشو أذهان التلاميذ بالمعلومات الجافة فقط، تجد الطالب أحياناً يستطيع أن يحفظ متناً أو يقول لك حكماً أو يذكر خلافاً أو ما أشبه ذلك، لكن ليس لديه غيرة، لا أمر بمعروف ولا نهي عن منكر، ولا يعد نفسه حتى يكون قائداً للأمة، رضي من الغنيمة بالإياب، هذا لا يصلح أبداً، ينبغي أن يكون العالم مدرسة تخرج تلاميذ فيهم التكامل، فيهم العلم الشرعي المبني على الدليل، فيهم العمل، الصدق، الإخلاص، العبادة بحيث أن الأمة تلتف من ورائهم، والأمة أحوج ما تكون لمثل هؤلاء؛ لأن الأمة اليوم في مشارق الأرض ومغاربها قد التفت حول العلمانيين، واليساريين، والمنحرفين، والضالين، لماذا؟ لأنهم خدعوا الأمة، قالوا: نحن ندافع عن حقوق الناس.

فالشيوعيون -مثلاً- يدعون أنهم يحفظون أموال الأمة ويدافعون عن حقوق ما يسمونهم بالكادحين، فالشيوعيون مذهبهم نظرياً أن الحكم للكادحين، للعمال الذين يسمونهم بطبقة البروليتاريا، وهذه دعاوى عريضة باطلة لكن هكذا خدعوا الناس، ولذلك قال زعيمهم ماركس: يا عمال العالم اتحدوا.

الشيعة أيضاً خدعوا الأمة بمثل هذه الدعاوى الباطلة ولذلك كانوا يدعون أنهم يحافظون على حقوق من يسمونهم بالمستضعفين، ويحاربون قوى الاستكبار العالمي وغير ذلك من هذه العبارات والمصطلحات الكاذبة التي ضللوا بها الأمة، وقل مثل ذلك في العلمانيين وغيرهم، فإن الأمة أحوج ما تكون إلى طلبة العلم الذين تلتف حولهم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015