وأخيراً: فإنني أختم الحديث عن العز بن عبد السلام رضي الله عنه بلفتتين مهمتين في حياته، وهاتان اللفتتان ليس لهما علاقة ظاهرة بالموضوع الأصلي إلا أنهما عبارة عن قصتين مهمتين من المصلحة أن يسمعهما من يسمع ترجمة العز بن عبد السلام وما يتعلق بمواقفه البطولية الجهادية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الموقف الأول: كيف طلب العلم؟ كان جاهلاً أول أمره وكبر سنه وهو لم يتعلم -وهذا عبرة لبعض الذين كبروا ولم يتعلموا- وفي أحد الأيام كان نائماً في الكلاسة -وهي زاوية في الجامع الأموي بدمشق- لأنه كان في سكن للطلاب حينذاك وللناس عموماً، فكان نائماً والليلة شديدة البرد فاحتلم في تلك الليلة واستيقظ فذهب بسرعة وكان ثمة بركة في طرف المسجد شديدة البرودة حتى ربما أنها متجمدة، فخلع ثيابه ونزل في تلك البركة واغتسل في ماء بارد ثم خرج حتى كاد أن يغمى عليه وذهب ونام مرة ثانية، ثم احتلم مرة أخرى أيضاً فاستيقظ.
حتى ذكر ابن السبكي القصة هذه عن والده يقول: ما أدري حصلت له القضية مرتين أو ثلاث، في ليلة واحدة، وفي كل مرة كان يذهب إلى هذا المكان البارد ثم يلقي بنفسه فيه حتى أنه قال أغمي عليه في المرة الثانية أو الثالثة أغمي من شدة البرد، فاستيقظ بعد ذلك وجلس حتى طلع الفجر، بعد ذلك قيل أنه أغفى إغفاءة بسيطة وسمع واحداً يقول له في النوم: هل تريد العلم أو العمل؟ فقال: لا، أريد العلم؛ لأن العلم يقود إلى العمل.
فلما أصبح الصباح أخذ كتاب التنبيه في فقه الشافعي، واعتكف عليه حتى حفظه ثم بعد ذلك ظل يطلب العلم حتى أصبح -كما يقول السبكي - أعلم أهل زمانه، وكان كثير التعبد لله جل وعلا، فهذا درس فيه عبرة وفيه عجب.
الموقف الثاني: وإذا كان الموقف الأول يتعلق ببداية طلبه للعلم وبداية حياته العلمية، فإن الموقف الثاني يتعلق بنهاية حياته، ففي نهاية حياته، لما حضرته الوفاة، وقرُب موته جاءه السلطان بيبرس وكان يحبه، حتى إنه لما مات قال السلطان بيبرس: لا إله إلا الله ما اتفق موت الشيخ إلا في زمني وفي عهدي -يعني: هذا ليس بخير أن يموت الشيخ في زمني- جاءه في مرض موته وقال له: المناصب التي أنت فيها عين أولادك -وكان عنده أكثر من ولد من أشهرهم عبد اللطيف طالب علم مترجم له- يقول: عَيَّن المناصب لأولادك، فلان في القضاء، وهذا في المدرسة التي تدرس فيها، والثالث فقال: ما فيهم من يصلح -المسألة ليست مجاملات ولا تتم الأمور بهذه الطريقة فأولادي ما فيهم من يصلح- وإنما أعين فلاناً -وذكر رجلاً بعيداً أجنبياً- وقال: إنه هو الذي يصلح وهو الجدير بمثل هذه المناصب.
أيها الأحبة: إنما قصدت من عرض سيرة العز بن عبد السلام ليس المتعة فقط ولا الرواية التاريخية، إنما قصدت أمراً آخر وهو أن الأمة إذا ندَر الرجال في واقعها دائماً تلتفت إلى الوراء، تلتفت إلى الماضي، تبحث عن هؤلاء الرجال، وهذه الأمة ما عقمت أرحام النساء أن تخرج لنا رجالاً من أمثال العز بن عبد السلام وغيره؛ بل ومن هم أفضل منه -بإذن الله تعالى- لكن على الأمة أن تعي دورها، وتبدأ بإعداد نفسها لمثل هذه المواقف الرجولية الصلبة التي هي أحوج ما تكون إليها، فإن الأمة مقبلة على تاريخٍ طويل، الله أعلم بما يلقاها فيه من الفتن، والمحن، والشدائد، وهي أحوج ما تكون إلى الرجال الذين يكونون كالقمر في الليلة الظلماء.