خرج العز بن عبد السلام -كما ذكرت لكم- إلى مصر واستقبله نجم الدين أيوب وأحسن استقباله وجعله في مناصب ومسئوليات كبيرة في الدولة.
وكان المتوقع أن العز بن عبد السلام يقول: هذه مناصب توليتها ومن المصلحة أن أحافظ عليها حفاظاً على مصالح المسلمين، وأن لا أعكر ما بيني وبين هذا الحاكم خاصة أن الملك الصالح أيوب في مصر مع أنه رجل عفيف وشريف، إلا أنه كان رجلاً جباراً مستبداً شديد الهيبة، حتى إنه ما كان أحد يستطيع أن يتكلم بحضرته أبداً، ولا يشفع في أحد، ولا يتكلم إلا جواباً لسؤال لشدة هيبته.
حتى إن بعض الأمراء في مجلسه يقولون: والله إننا دائماً نقول -ونحن في مجلس الملك الصالح أيوب -: ما نخرج من المجلس إلا إلى السجن؛ لأنه رجل مهيب وإذا سجن إنساناً نسيه، ولا أحد يستطيع أن يكلمه فيه أو يذكره به، وكان حوله الخدم، والحشم، والأعوان، والشرط.
رجل له هيلمان، وسلطة، وصولجان، وخوف، وذعر في نفوس الناس، والخاص والعام، فماذا كان موقف العز بن عبد السلام مع هذا الرجل؟ كان له موقف في غاية الطرافة: في يوم العيد خرج الموكب، موكب السلطان يجوب شوارع القاهرة والشرطة مصطفون على جوانب الطريق والأمراء، وهذه كانت عادة سيئة موجودة عند الأمراء في ذلك الوقت يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فكان له هيبة وأبهة والسيوف مصلتة.
فوقف العز بن عبد السلام وقال: يا أيوب! -يخاطب الحاكم- يا أيوب التفت إليه الحاكم مذهولاً من الذي يخاطبه باسمه الصريح، هكذا بلا مقدمات: يا أيوب فالتفت إليه، فقال له: ما حجتك عند الله عز وجل غداً إذا قال لك ألم أُبَوِّئ لك ملك مصر فأبحتَ الخمور.
فقال: ويحدث هذا في مصر؟ قال: نعم، في مكان كذا، وكذا، حانة يباع فيها الخمر، فقال: يا سيدي! هذه من عهد أبي أنا ما فعلت هذا، فهز العز بن عبد السلام رأسه، وقال: إذن أنت من الذين يقولون: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] فقال: لا، أعوذ بالله وأصدر أمراً مرسوماً بإبطالها فوراً ومنع بيع الخمور في مصر.
موقف عجيب وانتهى الموقف، ورجع العز بن عبد السلام رضي الله عنه إلى مجلسه يعلم الطلاب ويدرسهم، وكان يعلمهم مواقف البطولة والشجاعة قبل أن يعلمهم الحلال والحرام، ويعلمهم الغيرة على الدين مثلما يعلمهم الأحكام، لأنه لا قيمة لطالب يحفظ القرآن والصحيحين والسنن وكتب الفقه والحديث، ومع ذلك غيرته ميتة على الإسلام، لا يغضب لله ورسوله، لا يتمعر وجهه إذا ما رأى المنكر، لا يتطلع إلى منازل الصديقين والشهداء، ما قيمة هذا العلم؟! فرجع العز بن عبد السلام إلى مجلس درسه، فجاءه أحد تلاميذه، يقال له الباجي، يسأل، فيقول: يا سيدي، كيف الحال؟ قال: بخيرٍ والحمد لله، قال: كيف فعلت مع السلطان؟ قال: يا ولدي، رأيت السلطان في أبهة ومنظر ومظهر فخشيت أن تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فأردت أن أهينه.
إذاً: العز بن عبد السلام كان يربي السلطان، كان العز يستطيع أن يقول للحاكم بأذنه: في مكان كذا وكذا حانة يباع فيها الخمر، لكن لماذا أعلن هذا الأمر على الناس؟ إنه يريد أن يربي السلطان، فهو يريد إنكار منكرين في وقت واحد، المنكر الأول -وهو صغير بالنسبة للثاني-: الحانة التي يباع فيها الخمر، ويمكن أن تزال ببساطة.
لكن المنكر الثاني الأكبر هو: هذا الغرور، وهذه الأبهة، وهذا الطغيان الذي بدأ يكبر في نفس الحاكم، فأراد أن يقمعه ويقعده ويزيله، قال: فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه، فقال له الباجي (تلميذه) : يا إمام، أما خفت؟ قال: لا والله يا ولدي، استحضرت عظمة الله عز وجل فرأيت السلطان أمامي كالقط.
إلى هذا الحد! يا سبحان الله! لكن ما رأيكم في طالب علم أصبح يخاف حتى من القط! هل يأمر؟ هل ينهي؟ لا، ولذلك أقول: كان العز بن عبد السلام رضي الله عنه يتخذ هذه المواقف لأغراض عديدة منها -كما سيأتي- تربية الناس على مثل هذه المواقف وأن يجر الأمة كلها إلى مواقف شجاعة قوية.