لما كان العز بن عبد السلام في دمشق كان الحاكم في دمشق رجلاً يقال له الملك الصالح إسماعيل من بني أيوب، فولى العز بن عبد السلام خطابة الجامع الأموي.
وبعد فترة حصل أن الملك الصالح إسماعيل حالف النصارى الصليبيين أعداء الله ورسله، وسلّم لهم بعض الحصون كقلعة الشقيق وصيدا وبعض الحصون وبعض المدن، أعطاها لهم من أجل أن يستعين بهم على قتال الملك الصالح أيوب بمصر.
فلما رأى العز بن عبد السلام هذا الموقف الخياني المتآمر الموالي لأعداء الله ورسله لم يصبر، فصعد على المنبر وتكلم وأنكر على الصالح إسماعيل تحالفه مع الصليبيين، وقالها له صريحة، وقطع الدعاء له في الخطبة بعد ما كان اعتاد أن يدعو له، وختم الخطبة بقوله: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً، تعز فيه وليك وتذل فيه عدوك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، ثم نزل، وعرف الأمير الملك الصالح إسماعيل أنه يريده، فغضب عليه غضباً شديداً، وأمر بإبعاده عن الخطابة وسجنه، وبعدما حصل الهرج والمرج واضطرب أمر الناس أخرجه من السجن ومنعه من الخطبة.
بعد ذلك خرج العز بن عبد السلام من دمشق مغضباً إلى جهة بيت المقدس فصادف أن خرج الملك الصالح إسماعيل إلى تلك الجهة والتقى بأمراء النصارى قريباً من بيت المقدس، فأرسل رجلاً من خاصته وبطانته وقال له: اذهب إلى العز بن عبد السلام ولاطفه ولاينه بالكلام الحسن واطلب منه لعلك تأتي به معك إلي ويعتذر مني، ويعود إلى ما كان عليه.
فذهب الرسول إلى العز بن عبد السلام وقال له: ليس بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وأعمالك وزيادة على ما كنت عليه إلا أن تأتي وتقبل يد السلطان لا غير، فكل ما في الأمر أن تأتي إلى الملك الصالح إسماعيل وتقبل يده، وتعود إلى ما كنت عليه ونزيدك مناصب جديدة.
فضحك العز بن عبد السلام ضحكة الساخر، وقال: يا مسكين! والله ما أرضى أن الملك الصالح إسماعيل يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده! يا قوم، أنا في وادِ وأنتم في وادٍ آخر، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: إذن نسجنك، فمعي أمر إذا لم تمتثل أن تسجن، فقال: افعلوا ما بدا لكم.
فأخذوه وسجنوه في خيمة، فكان يقرأ القرآن في هذه الخيمة، وفي إحدى المرات كان الملك الصالح إسماعيل قد عقد مجلساً أو مؤتمراً مع بعض زعماء النصارى الصليبيين، وكانوا قريبين من العز بن عبد السلام بحيث يسمعون قراءته للقرآن، فقال: هل تسمعون هذا الذي يقرأ؟ قالوا: نعم، قال: هذا أكبر قساوسة المسلمين، -يريد أن يفتخر عندهم بهذا العمل- سجناه؛ لأنه اعترض علينا في محالفتنا لكم، وتسليمنا لكم بعض الحصون والقلاع، واتفاقنا معكم على قتال المصريين، فماذا قال له ملوك النصارى؟ -لقد ظن أنهم سوف يشكرونه على هذا العمل- لكنهم قالوا له: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.
أي لو كان عندنا رجل بهذا الإخلاص للأمة وبهذه القوة، وبهذه الشجاعة؛ لغسلنا رجليه وشربنا الماء الذي غسلنا به رجليه، فأصيب الملك إسماعيل بالخيبة والذل، وكانت هذه بداية هزيمته وفشله، فجاءته جنود المصريين وانتصرت عليه وعلى من كانوا متحالفين معه من الصليبيين، وأفرجت عن الإمام العز بن عبد السلام.
هذا موقف صدع به العز بن عبد السلام -رحمه الله- بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على رؤوس المنابر، ورأى أن هذا الذي يسعه، مع أنه كان يستطيع غير ذلك، لكن رأى أن هذا هو الأسلوب المناسب خاصةً أن الصليبيين في تلك الوقعة دخلوا شوارع دمشق ومدنها وتجولوا في أسواقها ودكاكينها، وكانوا يشترون الأسلحة من المسلمين.
ولذلك وجه إليه استفتاء: هل يجوز أن نبيع السلاح إلى النصارى؟ فأفتى رضي الله عنه بأن بيع السلاح إليهم لا يجوز، لأنك تعلم أنهم سوف يصوبون هذه الأسلحة إلى صدور المسلمين.