بيعه للمماليك الأمراء

موقف ثالث أعجب من الموقفين السابقين كليهما: كان الذي يحكم مصر -كما ذكرت سابقاً- المماليك، وقد بايعوا أمراء العباسيين لما خرجوا في آخر الأمر، لكن كانت الحكومة الحقيقية بيد المماليك، أي أن نائب السلطنة كان مملوكياً وكذلك أمراء الجيش والمسئولون كلهم مماليك، في الأصل أرقاء، وكانوا يسمون العز بن عبد السلام قاضي القضاة -يعني أكبر القضاة- وإن كان كثير من أهل العلم أنكروا هذه الكلمة.

المهم أنه كان كبير القضاة بمصر، فكان كلما جاءته رقعة فيها بيع أو شراء أو نكاح أو شيء لواحد من هؤلاء المماليك يراها لا تصلح فيبطلها؛ لأن هذا عبد مملوك حتى لو كان أميراً كبيراً عندهم أو قائداً في الجيش، فيرده ويقول له: يجب أن يُحَرر فيباع أولاً، وبعد ذلك يصح بيعهم وشراءهم وتصرفاتهم كلها، أما الآن فهم عبيد.

لهذا فإنهم تضايقوا من هذا العمل، وجاءوا إليه يقولون له: ماذا تصنع بنا؟ قال: أريد أن أبيعكم، فغضبوا أشد الغضب، ورفعوا أمره إلى السلطان، فغضب السلطان وقال: هذا أمرٌ لا يعنيه، هذا يتدخل فيما لا يعنيه -وهذه كلمة قديمة تستخدم: هذا يتدخل فيما لا يعنيه- فلما سمع العز بن عبد السلام هذه الكلمة، تصرف تصرفاً بسيطاً لكنه مهم، فقام وعزل نفسه من القضاء.

إذاً: من أهم جوانب قوة العز بن عبد السلام أنه كان أكبر من المناصب، وأكبر من الوظائف، وأكبر من الأسماء، ولذلك ما كان يتطلع إليها أو يستمد قوته منها، بل كان يستمد قوته من إيمانه بالله عز وجل، ومن وقفته إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدع بكلمة الحق، ثم من هذه الأمة التي أعطته مهجها وأرواحها.

وأصبح العز بن عبد السلام في حياتهم وقلوبهم هو تاج الزمان ودرته، وأصبح هو أعظم عالم وداعية وإمام في العالم الإسلامي في وقته، فلذلك عزل نفسه من القضاء؛ لأن كل أمور المسلمين تدخل تحت تصرف القاضي، والعالِم يحكم فيها بحكم الله ورسوله.

ثم قام بتصرف آخر مشابه، وهو أنه جمع متاعه وأثاث بيته واشترى حمارين، وضع الأثاث والأمتعة -البسيطة- في حمار، وركّب زوجته وطفله على الحمار الآخر وأمسك رسن الحمار، ومشى باسم الله.

فإلى أين هذا الموكب البسيط المتواضع؟ إنه يريد أن يخرج من مصر ويرجع إلى بلده الأصلي، يرجع إلى الشام، وليس في الأمر ما يدعو إلى أن يذكر.

إنها قصة عادية رجل ركب حمارين ومشى لكن ما الذي حدث؟! لقد خرجت الأمة كلها وراء العز بن عبد السلام، حتى ذكر المؤرخون أنه خرج وراءه العلماء والصالحون والعباد والرجال والنساء والأطفال، وحتى الذين لا يؤبه لهم، هكذا تقول الرواية: أي النجارون، الصائغون، والصباغون، والكناسون وكل أصحاب الحرف والمهن الشريفة والوضيعة من الأمة خرجت وراء العز بن عبد السلام في موكب مهيبٍ رهيب.

فجاء الناس إلى السلطان وقالوا له: من بقي لك تحكمهم إذا خرج العز بن عبد السلام وخرجت الأمة كلها وراءه؟! ما بقي لك أحد، قد ذهب ملكك، فأسرع الملك الصالح أيوب إلى العز وركض يدرك هذا الموكب، ويسترضيه، ويقول له: ارجع ولك ما تريد، قال: لا أرجع أبداً إلا إذا وافقت على ما طلبت: أن نبيع هؤلاء المماليك، قال: لك ما تريد، افعل ما تشاء.

فرجع العز بن عبد السلام، وبدأ المماليك يحاولون به: أمعقول يبيعنا؟! أمعقول أن مسئولاً كبيراً في دولة المماليك يعلن عليه بالأسواق بالمزاد العلني: من يشتري؟ من يشتري؟ لا يمكن هذا! فغضبوا حتى قام نائب السلطنة وهو واحد منهم وذهب وقال: لا بد من تصفية جسدية، لا يوجد حل إلا أننا نقتل هذا الرجل؛ لأنه أصبح غصة في حلوقنا فلابد من قتله.

فذهب نائب السلطنة -وهو مملوكي وهو أول من سوف يحرج عليه في المزاد العلني- ذهب ومعه مجموعة من الأمراء ثم طرق باب العز بن عبد السلام وكانت سيوفهم مصلتة يريد أن يقتله فخرج ولد العز بن عبد السلام واسمه عبد اللطيف، فلما رأى ما رأى -موقف مهيب مخيف- رجع إلى والده، وقال: يا والدي انج بنفسك، الموت، الموت، قال: ما الخبر؟ قال: الخبر: كيت، وكيت، فقال العز بن عبد السلام لولده: يا ولدي والله! إن أباك لأحقر وأقل من أن يقتل في سبيل الله عز وجل.

ثم خرج مسرعاً فما لبس ثياباً ولا شيئاً؛ لأنه يخشى أن تفوته هذه الفرصة خرج مسرعاً إلى نائب السلطنة فلما رآه يبست أطرافه وتجمد! وأصابته حالة عصبية من الذعر والرعب، وأصبح يضطرب، وسقط السيف من يده، واصفر وجهه، وبدأ يضطرب، وسكت قليلاً، ثم تراد إليه نَفَسُه، فبكى وقال: يا إمام، حدِّث، ماذا تعمل؟ قال: أبيعكم.

قال: تحرج علينا؟ قال: نعم، قال: تقبض الثمن؟ قال: نعم، قال: أين تضعه؟ قال: في مصالح المسلمين العامة، في بيت المال أضعه، فطلب منه الدعاء، لقد بكى بين يديه وطلب منه الدعاء له، ثم انصرف.

لقد فعلها العز بن عبد السلام رضي الله عنه، فقام وجمع هؤلاء، وأعلن عنهم، وبدأ يبيعهم، وكان لا يبيع الواحد منهم إلا بعد أن يوصله إلى أعلى الأسعار، لا يبيعه تحلة للقسم، لا، بل يريد أن يزيل ما في النفوس من كبرياء، فكان ينادي على الواحد بالمزاد العلني مثل البائع الشحيح، فلا يبيع الأمير إلا بعدما يستوفي قيمته.

وهذه القصة حكم مجموعة من العلماء والمؤرخين بأنها لم تحدث في تاريخ البشرية كلها، وأعتقد أن هذا صحيح، طيلة تاريخ البشرية في جميع الأمم، إذا أتوا يفاخرونا نفاخرهم بأئمة أفذاذ من أمثال العز بن عبد السلام، هاتوا لنا عالماً يقف مثل هذا الموقف! أو شخصية فكرية في الأمم كلها يقف مثل هذا الموقف! وتاريخ الإسلام كله لا يعرف فيه مثل هذا الموقف الذي حصل للعز بن عبد السلام رضي الله عنه وأرضاه.

وقد سجل هذا الموقف بقلمه البارع وأدبه الرفيع الأديب مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله في كتابه وحي القلم تحت عنوان (أمراء للبيع) وألف أحد المعاصرين كتاباً سماه العز بن عبد السلام بائع الملوك.

هذا جانب، إذاً، العز بن عبد السلام كان شجاعاً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بكلمة الحق، وكان يرى أن يقول ذلك علانية وصراحة ولا يداهن ولا يخاف في الله لومة لائم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015