أيها الإخوة: إن العبد الذي يشعر بالخوف ويحتاج إلى الأمن في هذه الدار، ويدرك أنه لا مفر من الله عز وجل إلا إليه؛ يحتاج إلى أن يكون من الغرباء الذين تعرفوا إلى الله عز وجل في الرخاء فعرفهم في الشدة، فيا ترى ما معنى التعرف إلى الله عز وجل في الرخاء؟ إن التعرف إلى الله يشمل ثلاثة أمور: أولاً: التعرف إلى الله عز وجل بالإقرار به والإيمان به ومعرفة أنه لا يتصرف في هذه الأكوان ولا يديرها إلا الله عز وجل، وبهذا يخرج الدهريون والشيوعيون والملحدون والصوفيون وغيرهم ممن لا يؤمن بالله أو ممن يعتقد أن هناك مدبراً للكون مع الله عز وجل.
ثانياً: التوجه إلى الله عز وجل بالعبادة وصرف كل أنواعها إليه سبحانه لا إلى غيره، فلا يبقى الإنسان بدون معبود كما هو شأن كثيرٍ من الضالين والمنحرفين الذين لا يجدون شيئاً يعبدونه، حيث لم تتوجه قلوبهم إلى عبادة الله عز وجل، فمنهم من يعبد الدنيا، ومنهم من يعبد الكرة، ومنهم من يعبد معشوقته، ومنهم من يعبد المال، ومنهم من يعبد غيرها من الأشياء التي لا يدركون أنهم قد عبدوها وهم في الحقيقة قد عبدوها وتألهت قلوبهم إليها.
فلا بد من العبادة، ثم لا بد من العبادة لله عز وجل وحده لا إلى غيره، وهذا هو معنى التوحيد، وهو معنى كلمه لا إله إلا الله: أي لا معبود بحق إلا الله عز وجل، ويخرج بهذا من لا يدركون أنهم عابدون، كما يخرج به من يعبدون غير الله كمن يعبدون الملائكة أو يعبدون الأنبياء أو يعبدون الأولياء أو يعبدون غيرهم من المقربين أو سواهم، فلا بد من التقرب إلى الله عز وجل، والتعرف إليه بالأعمال الصالحة، وكلما زادت عبادة الإنسان وكثرت أعماله الصالحة كان أكثر تعرفاً إلى الله عز وجل، وأكثر قرباً منه، وضمن أن يكون الله عز وجل في الشدائد معه في الدنيا والآخرة.
ثالثاً: التعرف إلى الله بأسمائه وصفاته، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة يقول صلى الله عليه وسلم: {إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر} والله عز وجل له أسماء كثيرة غير محصورة، ولذلك فإن الدعاء المأثور كما نردده في دعاء القنوت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: {اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك} والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث الشفاعة الطويل أنه صلى الله عليه وسلم: {يخر ساجداً تحت العرش فيفتح الله عليه فيحمده بمحامد يعلمه إياها ذلك الوقت؛ لا يعلمها الآن} أي: وقت حياته صلى الله عليه وسلم.
فأسماء الله لا يحصيها إلا الله ولكن من هذه الأسماء تسعة وتسعون اسماً لها خاصية هي أن من أحصاها دخل الجنة، فلننظر ما معنى الإحصاء؟ إن الإحصاء يشمل أموراً عديدة: - يشمل أن تعرف هذه الأسماء، فمن كان لا يعرف هذه الأسماء فهو لم يحصها، فعليك أن تبحث عن كتاب من الكتب التي عنيت بإحصاء أسماء الله الحسنى وتحفظ هذه الأسماء عن ظهر قلب.
- ثم عليك أن تعرف ما معنى هذه الأسماء، فإن لكل اسم منها معنىً مراداً منها تدل عليه لغة العرب، فعليك أن تتعرف على هذا المعنى.
- ثم إن كل اسم منها يدل على صفة من صفات الله عز وجل، فعليك أن تتعرف على الصفة التي يدل عليها هذا الاسم.
ثم عليك أن تُقرِّ بهذه الأسماء وبالصفات التي دلت عليها.
ثم عليك أن تمرر هذه المعاني على قلبك وتحرص على تذكرها بكرة وعشياً، وتعمل بمقتضاها من فعل الطاعات وترك المعاصي.
فإذا فعلت ذلك فإنك حينئذ قد أحصيت هذه الأسماء وقد فزت بالبشارة النبوية، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: {من أحصاها دخل الجنة} .
إذاً: التعرف إلى الله عز وجل يكون بثلاثة أمور: أولاً: بالإقرار به وتوحيده.
ثانياً: بصرف العبادة إليه والتقرب إليه بالأعمال الصالحة.
ثالثاً: بمعرفة أسمائه وصفاته والعمل بمقتضاها من فعل الطاعة وترك المعصية.
فإذا تعرفت إلى الله عز وجل بهذه الأشياء في حال الرخاء، كان الله عز وجل لك في الشدة، سواء الشدائد التي تعرض لك في الدنيا من الفقر أو المرض أو غيرها، أو في الشدة التي تعرض لك لا محالة عند نزول الموت، أو في الشدة التي تعرض لك في قبرك أو في الشدائد التي تواجهك بعد اليوم في يوم القيامة.
وهذا وعد صادق من الله عز وجل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
فأولاً: الإنسان يحتاج إلى الثبات على دينه، وإلى أن يكون الله عز وجل موفقاً له في ذلك ليحفظه من الشهوات ومن الشبهات.
فإذا عرفت الله عز وجل في الرخاء عرفك فيما يعرض لك في شئون دينك، فحفظك من الشبهات التي قد تصدك عن سبيل الله، ولذلك يذكر الله عز وجل في كتابه قصة ذلك الرجل الذي آتاه الله آياته فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، يقول تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176] .
وإنك تجد كثيراً من الناس تعرض لهم في فترة من فترات عمرهم -خاصةً في فترة الشباب- بعض الشبهات والوساوس التي تتعلق بالألوهية أو بالنبوة أو بغيرها من قضايا الاعتقاد، فإذا كان الواحد منهم صادقاً في اللجوء إلى الله عز وجل فسرعان ما تزول هذه الشبهة وتغادر قلبه، حتى ولو لم يقرأ في الكتب ولو لم يجد حلاً لما أشكل عليه من القضايا والمشكلات والشبهات، وإنما يدفع الله عز وجل عنه التفكير في هذا الأمر ويغادره إلى غير رجعة ويصبح مطمئن القلب بالإيمان.
وتجد آخرين مهما أوتوا من العقل والعلم؛ ومهما قرءوا وسمعوا تجدهم يعانون من ألوان الشبهات بسبب ضعف يقينهم، وضعفت عبادتهم، وضعف تعرفهم إلى الله عز وجل في الرخاء فلم يتعرف عليهم في الشدة.