الحكمة

الشرط الخامس أو الصفة الخامسة من صفات الداعية هي: الحكمة.

والعلماء يعرفون الحكمة بأنها: وضع الشيء في موضعه، وفضلها عظيم، ويكفيك قول الله جل وعلا: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] فالحكمة خير كثير كما ذكر الله جل وعلا، وقد أمر الله الداعية أن يدعو بالحكمة فقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125] .

والحكمة لها صور شتى، منها -مثلاً- مخاطبة الإنسان بما يناسبه، فالناس طبقات شتى، وكل فئة من الناس يناسبهم أسلوب معين، فأنت حين تتحدث مع العامي تحتاج إلى أسلوب خاص، وحين تتحدث مع طالب العلم تحتاج إلى أسلوب آخر، وحين تتحدث مع إنسان مثقف تحتاج إلى أسلوب ثالث، وحين تتحدث مع عمال تحتاج إلى أسلوب رابع، وحين تتحدث مع زملاء تحتاج إلى أسلوب، وحين تتحدث مع من هم دونك تحتاج إلى أسلوب، أو مع من هم فوقك تحتاج إلى أسلوب.

فمن الحكمة أن تضع الشيء في موضعه، فتخاطب كل إنسان بما يناسبه، فلو حدثت العالم -مثلاً- بما تخاطب به العامي لكان هذا خطأ، ولو خاطبت العامة بما تخاطب به طلاب العلم لربما كان هذا لهم فتنة، ولذلك قال علي رضي الله عنه: [[حدثوا الناس بما يعرفون أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟]] وجاء في الأثر: [[ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة]] .

ومن صور الحكمة: عدم التعجل والاندفاع وراء الطيش والحماس غير المتزن، وقد ذكر لنا الله جل وعلا في كتابه نموذجاً لذلك، يقول الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77] .

جاء في حديث ابن عباس في السنن، وهو حديث صحيح، أن هذه الآية نزلت في قوم في مكة، والمسلمون مضايقون مضطهدون، كانوا يقولون: لو قاتلنا، لو جاهدنا، لو حملنا السلاح ضد الأعداء، فقيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة، فلما فرض عليهم القتال ووجب عليهم؛ نكص بعضهم وتراجعوا، وقالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، وإذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية، فالمطلوب من الداعي الحكمة والاتزان وعدم التعجل، والتدرج في الأمور، فما يكون صواباً في حال قد يكون خطأ في حال آخر.

ومن صور الحكمة: عدم الإقدام على عمل ضرره أكبر من نفعه، أو حتى ضرره مساوٍ لنفعه؛ لأنك تعمل، والعمل لا شك أنه مجهول، فحين تكتشف أن هذا العمل الذي تعمله ضاع قد تتركه، حتى حين تكتشف أن ضرره مساوٍ لنفعه حينئذٍ تتركه؛ لأنه لا داعي لأن أتعب نفسي فيه، وأنا أعرف أن الضرر مساوٍ للمصلحة.

فمن الحكمة عدم الإقدام على عمل كهذا، وذلك كما إذا وجدت إنساناً على معصية، وتعرف أنك لو نهيته عنها، لوقع في معصية أخرى مساوية لتلك المعصية.

ومن صور الحكمة: تقديم الأهم على المهم، وتقديم المهم على ما دونه، حين تتعارض وتتزاحم الواجبات.

فإذا كان عندك مجموعة واجبات كثيرة، لا تستطيع أن تقوم بها كلها دفعة واحدة، فعليك أن ترتب الواجبات فتبدأ بالأهم، وافترض أن عندك إنسان عليه مجموعة من الأخطاء والمعاصي، فهو تارك للصلاة، وفي نفس الوقت يشرب الخمر ويسمع الغناء، وأنت ترى أنه ليس من المصلحة أن تقول له: يا فلان، إن ترك الصلاة وشرب الخمر وسماع الغناء هذه كلها معاصٍ وكذا وكذا فمن المصلحة أن تبدأ مع هذا الإنسان بالتدرج، وما الإنسان خاصة إذا كان جاراً لك، فعندك وقت طويل معه، فمن الحكمة أن تبدأ معه في مسألة الصلاة فتدعوه إلى الصلاة، وتبين له خطورة تركها، وتحثه عليها حتى يستجيب لك، ثم تنتقل إلى المعصية الأخرى، ولذلك فالرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن ابن عباس، لما بعث معاذاً إلى اليمن قال له: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله} لأن مسألة التوحيد هي أهم ما يدعى إليه: {فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} إذاً لا بد من التدرج في الدعوة ومراعاة الأهم ثم المهم.

من صور الحكمة: مراعاة الرفق، والله عز وجل حين بعث موسى وهارون إلى فرعون قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] ولذلك يقال: إن أحد الدعاة المتعجلين دخل على أحد الخلفاء، وتكلم عليه بكلام قاس شديد، فكان الخليفة أفقه من هذا الإنسان، فقال له: قف، قد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فأمره بالرفق والقول اللين، بعث الله موسى إلى فرعون وقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] وموسى خير منك وفرعون شر مني، فلا داعي لأن تقسو علي وتغلظ لي في المقال.

فمراعاة الرفق والأناة والحلم وسعة الصدر على المدعوين، من أهم صور الحكمة المطلوبة من الداعية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015