أسباب الخشوع

وللخشوع أسباب لا بد من تحصيلها: الأول: تفريغ القلب، فصاحب القلب المشغول بهموم الدنيا المملوء بمشاغلها المستغرق في قضاياها، أنى له أن يجد في وقته خانة فارغة يملؤها بشأن الصلاة، فالصلاة تحتاج إلى القلب، فإذا احتاج العبد قلبه في الصلاة وجده ملآناً مشغولاً بهموم الدنيا، فلا يفرغ للصلاة، فلا بد أن يكون في قلب الإنسان خانات فارغة دائماً وأبداً لأمر الآخرة ولأمر الدين، لا يسمح أن تملأ بشيء دنيوي قط.

الثاني: التبكير إلى المساجد، وإحسان الطهور، والتنفل قبل الصلوات، وقراءة ما تيسر من القرآن، فإن هذا يفرغ القلب ويجرده من الشواغل، ويهيئه للإقبال على الله تبارك وتعالى، ولهذا شرعت السنن الرواتب: أربع قبل الظهر أو ركعتان، وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وركعتان قبل الفجر، وبين كل أذانين صلاة: ركعتان قبل العصر بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل المغرب بين الأذان والإقامة، وركعتان قبل العشاء بين الأذان والإقامة، حتى يتفرغ القلب ويتجرد للإقبال على الفريضة.

الثالث: الإقبال على الصلاة بقراءتها وذكرها ودعائها، فيتأمل العبد ماذا يقرأ في صلاته، وبماذا يدعو، أما أن يدعو وقلبه في واد آخر فهذا بعيد من الإجابة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة وابن عمر وهو حديث حسن، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب غافل لاهٍ} فلا بد أن يقبل العبد على ربه ويدعوه، وإذا قرأ القرآن أن يعرف ماذا يقرأ، وإذا ذكر الله يعرف ماذا يقول، وإذا ذكر فقال: الله أكبر أو سمع الله لمن حمده، أو غير ذلك، عرف معنى ما يدعو به.

الرابع: ألا يصلي العبد وذهنه مشغول، فينتظر قضاء الصلاة حتى يذهب إلى حاجته، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان} وذلك لأن النفس إذا استشرفت إلى شيء من أمر الدنيا طعاماً أو شراباً أو عملاً أو خبراً أو غير ذلك، فإن العبد يصلي وهو ينتظر قضاء الصلاة لينظر هذا العمل، وينبغي أن يخلص من عمل الدنيا، ويقبل على الصلاة بقلب حاضر متفرغ، ولهذا وصف الله تعالى الصالحين بالمحافظة على الصلوات، وهذا يشمل المحافظة على الوقت والطهور وأعمال الصلاة والخشوع وغير ذلك، وبضدهم ذكر المنافقين، فقال: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142] وذكر المشركين، فقال: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال:35] وذكر المرائين فقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون:4-7] .

إن الصلاة عبادة محضة، ليس لها مُرتَّبات وليس فيها فوائد دنيوية، ولا داعي أن نقول للناس: إن العبد إذا صلى كسب رياضة وصحة، واستقام حاله، وتخلص من بعض الأمراض إلى غير ذلك؛ فالعبد لا يأتي إلى المساجد ليكسب مالاً أو ليكسب صحة، ولا ليكسب ثروةً أو ليكسب جاهاً أو ليكسب مكانةً اجتماعية، إنما يمشي هذه الخطوات إلى الله تعالى ليضع جبهته في التراب لربه جل وعلا، ويقول: سبحانك وبحمدك، أنا عبدك وبين يديك، أعترف بذنبي، وأعترف لك بكل معاني الكمال والجمال فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت.

فليس في الصلاة كبير ولا صغير، ولا مأمور وأمير، ولا غني وفقير، بل الجميع فيها سواسية، أقدامهم سواء، وأكتافهم سواء، وجباههم كلهم في التراب معفرة لرب الأرباب.

إذاً: هذه هي الكيفية الأولى والعظمى وهي الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فإن الواحد منهم إذا قام إلى صلاته أقبل على ربه أشد الإقبال، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:1-5] عبء الدعوة ومسئولياتها وتكاليفها وهمومها وتبعاتها لا يقوم لها إلا من استعان بالله تعالى، وعبد الله تعالى وذكر الله وصلى، ولهذا قال: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل:5] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015