الكيفية الباطنة لصلاة الأنبياء

وصلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فيها كيفيتان: الكيفية الأولى: الكيفية الباطنة، وهي كمال الذل والخشوع لله تعالى، وصدق التعبد والإقبال عليه، والانقطاع إليه عمن سواه، ولهذا قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1-2] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء:107-109] وقد قام نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة تامة حتى أصبح يقرأ آية واحدة من كتاب الله تعالى يرددها ويبكي، كما في حديث أبي ذر عند النسائي وغيره وهو قوله تعالى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118] فالخشوع سر الصلاة ولبها وجوهرها وثمرتها، ولا شك أن من الخشوع قدراً واجباً، يأثم المرء بتركه والتفريط فيه، كما في حديث أبي قتادة الذي رواه أحمد والدارمي والحاكم وصححه -وسنده جيد- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته، قالوا: يا رسول الله! وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها} .

ولا شك أن السرقة حرام، بل هي من كبائر الذنوب، فكون النبي صلى الله عليه وسلم وصف ذلك الذي لا يتم خشوع الصلاة ولا ركوعها ولا سجودها بأنه قد سرق، بل عد سرقته أسوأ سرقة، وعده هو أسوأ الناس سرقة، أن هذا دليل على أن من إتمام الركوع والخشوع والصلاة قدراً واجباً لا تتم الصلاة إلا به، ويأثم الإنسان بتركه والتفريط فيه، ولا شك أن الخشوع من أعمال القلب، وأعمال القلب هي الأصل لأعمال الجوارح، وفي الصحيحين من حديث النعمان: {إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} .

فالأصل في أعمال الجوارح أعمال القلب، فإذا صلح القلب وأعماله صلحت أعمال الجوارح، وإذا فسد القلب فسدت أعمال الجوارح، والناس يتنافسون في أعمال الجوارح، فربما تنافسوا في التبكير إلى الصلاة، وفي الخشوع الظاهر في الصلاة، وفي تطبيق السنن الواردة في الصلاة، ربما تنافسوا في تطويل الصلاة، وهذا كله حسن وجيد ومشروع: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] وهو خير من التنافس في الدنيا أو الأموال أو الأولاد أو في الرياسات أو في غير ذلك، ولكن أعظم من هذا التنافس على الأمور الظاهرة أن يتنافس الناس على الأمور الباطنة -أعمال القلوب- ولكنهم لا يتنافسون فيها، لأنها ليست مما تراه العين أو تسمعه الأذن أو تمسه اليد؛ فهي سر لا يعلمه إلا العالم بالأسرار وبالخفيات، وهو الله تبارك وتعالى، فلا يتسابق الناس إليه كما يتسابقون إلى الأمور الظاهرة.

فالمقصود الأعظم للصلاة يحصل بخشوع القلب وانكساره وإقباله على عبادته، وفي صحيح مسلم عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مسلم تحضره صلاة مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة، وذلك الدهر كله} يا سبحان الله! أي خير نريد بعد هذا؟! كفارة لما قبلها من الذنوب، وهي لا تستغرق منك أكثر من عشر دقائق، والمقصود الذنوب الصغائر شريطة أن تحسن وضوءها وخشوعها وركوعها، وفي الترمذي ومسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {في الصلاة تشهد في كل ركعتين وتخشع وتضرع، وتقنع يديك، وتقول: يا اللهم يا اللهم، فمن لم يفعل فهي خداج فهي خداج} وفي صحيح البخاري أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والله ما يخفى علي خشوعكم ولا ركوعكم ولا سجودكم} .

والخشوع علم، ولا غرابة أن يتسابق الطلاب إلى حضور المجالس التي فيها علم لبعض الأحكام، لكن كم رأينا ممن يتسابقون إلى المجالس التي فيها علم القلوب، كعلم الخشوع أو علم اليقين أو علم الإقبال على الله والمعرفة به ومحبته وغير ذلك، الخشوع علم لأنه علم بالله وأسمائه وصفاته ومعرفة لعظيم قدره، حتى لا يكون في صدرك شيء أكبر وأعظم من الله تعالى، ولهذا تستفتح الصلاة لتقول: الله أكبر، وغير الخاشع يعد من الجاهلين وقد قال شداد بن أوس وهو صحابي لـ جبير بن نفير: [[أتدري ما ذهاب العلم؟ قال: لا، قال: ذهاب العلم ذهاب أوعيته وهم العلماء، قال له: هل تدري أي العلم يرفع أولاً؟ قال: لا أدري، قال: أول علم يرفع من الناس علم الخشوع، يوشك أن تدخل المسجد الجامع، فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً]] وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده والدارمي وأهل السنن وهو حديث صحيح.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015