كل الأنبياء بعثوا بالصلاة، ولهذا لو تأملت هديهم لوجدت الصلاة مذكورة في سيرة كل نبي، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم:58] ثم قال: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] .
إذاً: فالأنبياء بعثوا بالصلاة، وإذا قرءوا القرآن خروا ساجدين وخاشعين باكين لله تعالى، أما الذين من بعدهم ممن غيروا وبدلوا وخالفوا هديهم، فقد اتبعوا الشهوات وأضاعوا الصلاة، وقال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [الأنعام:92] .
وكأن صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كانت متقاربة في شكلها وهيئتها ومظهرها ومخبرها وسرها وجوهرها، ففي حديث ابن عباس وابن عمر -وهما حديثان صحيحان- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنا -معاشر الأنبياء- أمرنا أن نعجل إفطارنا، ونؤخر سحورنا، ونضع أيماننا على شمائلنا في الصلاة} فهؤلاء الأنبياء كلهم أمروا أن يقفوا في الصلاة خاشعين لله تعالى، مخبتين بين يديه، منكسرين إليه، واضعاً أحدهم يده اليمنى على يده اليسرى على جزء من بدنه في صلاته، على صدره أو غيره، هكذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأنبياء جميعاً.
ووضع اليد على اليد في الصلاة هو من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت فيه أحاديث كثيرة أوصلها بعض العلماء إلى درجة المتواتر الذي ثبت ثبوتاً قطعياً، وهو أنه عليه الصلاة والسلام كان: {يضع يده اليمنى على اليسرى في الصلاة} وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد: {كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على يده اليسرى في الصلاة} وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مررت على موسى وهو يصلي في قبره} وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: {أفضل الصلاة صلاة داود} وذكر عليه الصلاة والسلام أنه لما أسري به إلى بيت المقدس، جمع له الأنبياء هناك، فصلى بهم إماماً وهم يصلون بصلاته، ولا شك -والله تعالى أعلم- أن هؤلاء المأمومين من أنبياء الله ورسله كانوا يقتدون بإمام الأئمة محمد عليه الصلاة والسلام، فإذا كبر كبروا، وإذا قرأ أنصتوا، وإذا قام قاموا، وإذا ركع ركعوا، وإذا سجد سجدوا، وإذا قعد قعدوا، وإذا سلم سلموا من ورائه صلى الله عليه وعليهم جميعاً وسلم.
فهذا ما يقتضيه الشرع في اقتداء المأموم بالإمام، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه} فكيف تظنون هؤلاء الأنبياء الكرام عليهم الصلاة والسلام صلوا خلف إمامهم نبينا محمد، إلا أن يكونوا يصلون بصلاته حذو القذة بالقذة، ويتبعونه في كل أفعاله عليه الصلاة والسلام.
وفي آخر الزمان ذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن عيسى ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيصلي الفجر مع المسلمين يقتدي بإمامهم، ويقول: {أنتم أئمة بعضكم لبعض تكرمة الله تعالى لهذه الأمة} ولا شك أن عيسى حين يصلي سوف يقتدي بسنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، إذ أن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم باقية إلى يوم الساعة، وهي حق واجب على كل الناس الذين يأتون من بعده.
فبذلك تعلم أن جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا بالصلاة، وأُمروا بها، وأمروا بها غيرهم، وأن صفة الصلاة عند الأنبياء جميعاً -والله تبارك وتعالى أعلم- متقاربة.
بل حتى الملائكة يصلون، ولهم صلوات كصلاة المسلمين: قيام وركوع وسجود، ففي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {نزل جبريل فأمني فصليت معه} وفي الحديث الذي رواه أهل السنن: {أن جبريل أتى في اليوم الأول، فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في أول الوقت، وفي اليوم التالي نزل عليه السلام فصلى بالنبي صلى الله عليه وسلم الظهر، ثم العصر، ثم المغرب، ثم العشاء، ثم الفجر، في آخر الوقت، وقال له: الصلاة بين هذين الوقتين} وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: {ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟! قالوا: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف} .
وفي الحديث الذي رواه أصحاب السنن وغيرهم -وهو حديث صحيح- عن أبي ذر وغيره أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها من موضع شبر إلا وفيها ملك واضع جبهته ساجد لله تعالى يسبح الله تعالى بحمده، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى} قال الله تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت:38] وهم الملائكة، {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] .