هذه الصلاة شأنها عظيم، ولماذا أتكلم أنا أو يتكلم غيري وقد تكلم الرب جل وعلا؟! ولماذا يتحدث الإنسان وقد تحدث سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم فيبن ما في هذه الصلاة من الأسرار والمعاني الكبار؟! فالصلاة عهد، قال الله تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْداً * لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً} [مريم:86-87] .
وقال صلى الله عليه وسلم كما في السنن: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فمن حُرِم الصلاة فقد حُرِم الشفاعة يوم الحساب.
والصلاة عبادة تصل العبد بربه تعالى، فتجعل هذا العبد الضعيف الفقير الفاني المخلوق من تراب الأرض تجعله عظيماً، لأنه موصول بالله تبارك وتعالى، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج:77] .
وهي إيمان، وكل الأعمال بلا إيمان لا قيمة لها ولا ثمرة، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة:143] يعني: صلاتكم إلى بيت المقدس، قبل أن تحول القبلة إلى الكعبة في البيت الحرام.
ولهذا أيضاً بين النبي صلى الله عليه وسلم أن ترك الصلاة كفر، فقال كما في صحيح مسلم: {بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة} وتركها أيضاً نفاق، كما في قوله: عليه الصلاة والسلام في الحديث المتفق عليه: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً} .
والصلاة توبة قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11] وقال في الآية الأخرى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] .
والصلاة ذكر لله تعالى، قال الله عز وجل: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه:14] أي: لتذكرني بها.
والصلاة طمأنينة للقلب، وسكينة للنفس، وهناء للروح، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] .
وفي حديث متفق عليه: {أن أسيد بن حضير قام يصلي من الليل فقرأ من سورة البقرة أو من سورة الكهف -اختلفت الرواية- فرأى بين السماء والأرض أمثال القناديل، فجالت الفرس حتى خشي على ولده، فهدأ وسكن في قراءته، فعاد فعادت، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: اقرأ يـ ابن حضير تلك السكينة تنزلت للقرآن، تلك الملائكة ولو قرأت لأصبحت يتراءاها الناس بين السماء والأرض} .
والصلاة شكر: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} [الإسراء:3] وكان عبداً شكوراً بكثرة الصلاة، ولهذا لما قالت عائشة كما في الصحيحين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أطال الصلاة حتى تفطرت قدماه: {تفعل هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: يا عائشة! أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً} .
والصلاة عون للعبد على ما يعانيه ويواجهه من المشكلات في الدنيا والآخرة، ولهذا قال الله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] فالذين يواجهون مشاكل الدنيا وصعوباتها ويتصدون لجلائل الأعمال، خاصة من أهل العلم وأهل الدعوة وأهل الجهاد، الذين يلقون التعب في هذه الدار، ويواجهون من المشاكل الصغيرة والكبيرة، ويحط الناس بهم كل قضاياهم وكل مشكلاتهم، لا بد أن يستعينوا على ذلك بالصلاة، وإلا عجزوا وانقطعوا، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يصلي الفجر، ثم يجلس في مصلاه يذكر الله تعالى حتى يتعالى النهار ويرتفع، ثم يصلي ركعتين، ثم يقول: هذه غدوتي، لو لم أتغدها لم تحملني قدماي.
والصلاة مناجاة لله تعالى وبين يديه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: {إذا قام العبد في الصلاة فإنه يناجي ربه} ثم نهى صلى الله عليه وسلم أن يبصق العبد بين يديه أو عن يمينه، ولكن من تحت قدميه أو عن شماله.
والذي يناجي ربه تعالى أنى له أن يقبل على غيره، أو ينصرف عنه، أو يجعل بصره يلتفت يمنة ويسرة، والله تعالى قبالة وجهه.
والصلاة زلفى إلى الرب تبارك وتعالى، فإن العبد بعيد عن الله إن غفل عن ذكره، فكلما ذكر الله وصلى اقترب من الله تعالى، وقال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْداً إِذَا صَلَّى} [العلق:9-10] ثم قال في آخر السورة: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19] اقترب إلى الله تعالى بالسجود له.
وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا فيه من الدعاء، فَقَمِن أن يستجاب لكم} .
والصلاة كفارة، قال الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فالعبد يحترق بالذنوب والمعاصي: هذه نظرة حرام، وهذه كلمة ما حسب لها حساباً، وهذه خطوة إلى معصية، وهذه يد تمتد إلى ما لا يرضي الله، فإذا جاءت الصلاة كَفَّر العبد بها عن ذنوبه وخطاياه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: {أن العبد يغفر له ما بين الصلاتين ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر كله} ولما جاءه الرجل يشتكي ذنباً قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {أشهدت معنا الصلاة؟ قال: نعم، قال: اذهب فقد غفر لك} {وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: الصلاة بنهر غمر جارٍ بباب أحدكم يغتسل منه العبد كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يا رسول الله، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا والذنوب} .
والصلاة عصمة من الشيطان، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الشيطان يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب} .
وهي نور، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم: {والصلاة نور} .
وهي شغل أي شغل، ولهذا في حديث ابن مسعود: {إن في الصلاة لشغلاً} أي: عن أمور الدنيا، بل حتى عن أمور من غير الصلاة مما لا يتعلق بها، فإذا أقبل العبد على صلاته ينبغي أن يفرغ قلبه من جميع الشئون والهموم، ويقبل عليها بقلب حاضر ولسان ذاكر.
وهي أيضاً حقن لدم الإنسان، ولهذا لما وقف الرجل أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم الغنائم، فقال: {اعدل يا محمد، وفي رواية أنه قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فاستأذن رجل من الصحابة في قتله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لعله أن يكون يصلي} فاعتبر أن صلاته تعصم دمه من أن يقتل، ولما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم حكام الجور وحكام السوء، قال بعض الصحابة: {يا رسول الله، أفلا ننابذهم ونقاتلهم؟ قال: لا، ما صلوا} .
وهي ناهية عن الفحشاء والمنكر: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] بل هي أفضل الأعمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سئل كما في الصحيح: {أي الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها} .
وهي شعار الإخاء والحب والمودة بين المصلين المترددين على المساجد، ولهذا جاء في مسند الإمام أحمد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عن المملوك: {مملوكك كافيك، فإذا صلى فهو أخوك، فإذا صلى فهو أخوك} أي أن العبد الذي تستخدمه إذا أدى الصلاة فهو أخوك، فعليك أن تحسن معاملته وتبتعد عن إيذائه بالقول أو بالفعل.
بل هي وصية الله تعالى لأفضل خلقه، للرسل عليهم الصلاة والسلام: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} [مريم:30-ُ31] .
وبالتالي فإن الرسل نقلوا هذه الوصية لمن وراءهم من أهليهم وأقوامهم وأتباعهم، قال الله تعالى: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} [مريم:55] وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132] وفي الصحيحين: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فزار البقيع، فسلم على أهل البقيع، ثم صلى، وقال: إني أرى مواقع الفتن خلال بيوتكم كمواقع القطر، ثم قال صلى الله عليه وسلم: من يوقظ صواحب الحجرات؟ -يعني أزواجه رضي الله عنهن- من يوقظ صواحب الحجرات؟ يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة} وكان يقول في مرض موته الذي قبض فيه صلى الله عليه وسلم: {الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم} .
كل هذا شأن الصلاة، فهل ترى هذه المعاني العظيمة، وهذه الدلالات الربانية، وهذه الأوصاف النبوية؛ هل هي تصدق على كل صلاة أم تصدق على تلك الصلاة التي أمر الله بها ورسوله؟ لا شك أنه كم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه، حتى المنافقون كانوا يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم، وربما تأخروا عن بعض الصلوات كصلاة العشاء وصلاة الفجر، ولكنهم ربما شهدوها، وبالتأكيد هم يشهدون غيرها، وكثير من