ثم يا أهل الجزيرة! يا أهل الخيرات والبركات! يا من أنعم الله تعالى عليهم بنعمة المال! أتظنون أن وجود الثراء الفاحش بينكم إلى جوار الفقر المدقع، مما يرضي الله تعالى، أليس هذا من أعظم المنكرات؟ بلى، إن ذلك خلل اجتماعي كبير، وأخشى أن يورث هذا الأحقاد والضغائن في داخلكم وفيما بينكم.
فإن الإنسان المحروم الذي يرى غيره يتمتع بالخيرات، والثروات، والأموال، والدور، والقصور، والسيارات الفارهة، وكل التسهيلات، ثم يرى نفسه محروماً من ذلك كله، قطعاً لا شك فيه أنه سيتولد لديه الحقد، ووالله! لو كان مؤمناً تقياً لكان الغالب أن يحدث منه ذلك، فكيف والإيمان ضعيف عند عامة الناس اليوم، ولا يوجد من الوسائل ما فيه تقوية لإيمان الناس؟! فإذاً: هذا الخلل الاجتماعي، وهذا التفاوت الطبقي الكبير، لا شك أن عواقبه وخيمة، وينبغي أن نعلم أن هذا من أسباب العقاب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال كما في صحيح البخاري: {هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم بدعائهم واستنصارهم} فيجب أن نعلم أن من معنى الحديث أننا قد نمنع الرزق والنصر والأمن، ونحرم من الخيرات بضعفائنا أيضاً، بسبب دعائهم على من تسبب في حرمانهم مما يستحقون من مال، أو وظيفة، أو منصب، أو أي تسهيل كانوا به جديرين وله مستحقين.
يا أهل الجزيرة! هذا كتاب الله ينطق بيننا بالحق، يقول الله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45] أي: وأهلكنا أهلها (بئر معطلة) لأن أهلها أهلكوا (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أهلك الله تعالى من فيه، وأبقى القصر علامةً وآيةً على ما أجرى الله تعالى لأهل هذا القصر الظالمي أنفسهم (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أي: أهلك الله أهله، فهو خاوٍ على عروشه ليس فيه ديَّار ولا سائل ولا مجيب.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] أين الذين يسمعون؟! ثم ممن يسمعون؟! أين الذين يعقلون؟! ويتأملون؟ ويدركون أن هذا ليس كلاماً فارغاً، هذه سنن الله تبارك وتعالى جارية عليك وعلى غيرك، شئت أم أبيت، اليوم أو غداً، ولا تقل: لماذا أبطأنا؟ لم نرَ شيئاً، والأمور طيبة؟! لا! لأن الله تعالى استدرك هذا المعنى الذي قد يخطر في بالك، وذكره تعالى في نفس السياق {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ * وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ * وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} [الحج:46-48] .
فذكر الله تعالى الظلم في البداية (أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وقال في الأخير: (أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ) وبين الله تعالى أن الظلم هو سبب خراب الدول والمجتمعات، وتدمير البلاد، والقضاء عليها، والظلم يورث الأحقاد والبغضاء والتشتت واختلاف العقول والقلوب.
وبالتالي يصبح المجتمع وإن كان في ظاهره مجتمعاً واحداً؛ إلا أنه في حقيقته أهواء شتى، واتجاهات مختلفة متصارعة متضاربة، يغذيها الظلم، ويؤججها الحقد الناتج عن التميز الطبقي، والخلل الاجتماعي، الذي يجعل طبقات من المجتمع تنعم بالخيرات، والأموال، والبركات، والتسهيلات، والفرص، والوظائف، وطبقات أخرى كثيرة جداً محرومة من ذلك كله، وهو جزء من استحقاقها.