التوازن في مجتمع الصحابة

وهذه التجربة، أو هذا الأنموذج المتمثل في مجتمع الصحابة لا نطمع أن يتحقق مرة أخرى بنفس المستوى الراقي من الإيمان والعلم والعمل، فهو مجتمع لا يتكرر، لكن يُطمع أن يكون هذا المجتمع قدوة مثلى لكل مجتمع ولكل فرد مسلم يدعو إلى الله عزوجل على مدار التاريخ، وهذه حقيقة مهمة جداً في حياتنا يمكن أن نكتشف بها الخطأ من الصواب في كل وضع يعيشه المسلمون لأنه كما قيل: الضد يظهر حسنه الضد وبضدها تتميز الأشياء فأنت بالمقايسة تستطيع أن تعرف الخطأ من الصواب، بل وتستطيع أن تعرف مقدار الخطأ، وأضرب لهذه القضية المهمة مثلاً أرى أنه من الأهمية بمكان: قد يظن بعض المسلمين في يوم من الأيام أنهم حققوا لأنفسهم مستوىً من الإيمان عظيماً وكبيراً من خلال حياتهم الاجتماعية؛ فمثلاً يقول بعض المسلمين عن مجتمعات، أو تجمعات تقام في أماكن مختلفة من العالم، يقولون: إن هذه التجمعات التي يلتقي فيها أحياناً ملايين البشر، ومع ذلك لا يقع بينهم شيء من الخصومة، ولا شيء من المشاجرة، ولا شيء من الاختلاف، ولا تسمع اثنين يتلاحيان في أية قضية من القضايا؛ لا في قضية علمية، ولا عملية، ولا حول أمر من الأمور، فهل هذه الصورة التي يتحدث عنها البعض هل هي صورة مثالية وصحيحة أم لا؟ الذي أعتقده أن هذه الصورة وإن كانت بادي الرأي صورةً محببةً إلى النفس إلا أن عليها مآخذ عديدة، لماذا؟ لأنك حين تقرأ في سيرة الجيل الأول؛ الذي اتفق على أنه هو المثل الأعلى لكل مجتمع وتجمع ينشأ بعد ذلك، تجد أنه حصل بين أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شجار وخصومة في أشياء كثيرة، وتجد أنه حصل بينهم تنافس في أشياء عديدة سواء في أمور الدين والعبادة، أو حتى في بعض الأمور الدنيوية، وتجد أنهم قد يزدحمون في أمور معينة، وقد يتشاحون فيها، وقد ترتفع أصواتهم، بل وقد ترتفع الأصوات في المسجد أحياناً، وهذا كله ثابت في أحاديث صحاح، بل إن هذا الوضع وضع متواتر، ولو قرأت في أي كتاب من كتب السنة كـ البخاري أو مسلم مثلاً، أو غيرهما، أو في سير الصحابة لوجدت أن هذا الوضع يتكرر باستمرار.

فالصحابة يختلفون في قضية من القضايا، ويغضب بعضهم على بعض، ويعاتب بعضهم بعضاً، وترتفع أصواتهم، وهذا كله وضع طبعيٌ جبليٌ ليس بالغريب.

فأنت حين تجد وضعاً آخر في يوم من الأيام ليست فيه هذه الظاهرة، بل هو وضع لا يختلف فيه اثنان: لا يتلاحيان، لا يختصمان، لا يتشاجران، لا يغضب فيه واحد على الآخر إطلاقاً، تجد أن هذا الوضع في حاجة إلى مراجعة، لأننا قد نأخذ من الإسلام، أو نستبعد من الإسلام قضايا أساسية؛ لأنها مصدر خصومة بين الناس، أو بين المنتسبين إلى الإسلام، فإذا استبعدنا هذه القضايا أفلحنا فعلاً في جمع كلمة الناس، لكن ليس على الصورة الكاملة للإسلام، وإنما على صورة ناقصة قد تعجب الإنسان من حيث جودتها، لكن البصير يدرك أنها صورة ناقصة.

المقصود من هذا المثال هو: تقرير القاعدة السابقة، وهي: أن المجتمع الأول؛ مجتمع الصحابة رضي الله عنهم هو الصورة المثلى والقدوة العليا التي يجب أن نقيس عليها كل وضع، وتجمع، ومجتمع، فنعرف مدى استقامته أو انحرافه، ونعرف مقدار هذا الانحراف بهذا القياس، وهذه القضية المهمة نطبقها في الموضوع الذي نتحدث عنه الآن، وهو موضوع التوازن في حياة الفرد وفي حياة المجتمع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015