مثال ثالث: قبل أسابيع أيضاً تكلمت في موضوع (الإغراق في الجزئيات) وموضوع الإغراق في الجزئيات هو موضوع يشغل بالي، ولا أداري في ذلك، وأنا أدين الله تعالى بأن الإغراق في الجزئيات داء في الأمة كلها، على كافة المستويات، أنها تشتغل في كثير من الأحيان بجزئيات معينة عن ما هو أهم منها، بل قد تشتغل أحياناً بأمور لا داعي للاشتغال بها، وأحياناً تشتغل بأمور ينبغي الاشتغال بها، لكنها تغرق في ذلك، ولذلك عبرت بلفظ الإغراق، الذي يدل على أنني أدعو إلى الاعتدال والتوسط في ذلك.
وقد فهم منه بعض الإخوة خلاف ما أردت! مثلاً: هل يعني حديثي عن بعض الجزئيات، أو ذكري لبعض الأمثلة، أنني أقصد بحديثي هذا فئة معينة، أو أستهدف طائفة معينة، أبرء إلى الله عز وجل من ذلك، ويشهد الله على ما في قلبي، أنه لم يكن في ذهني -وأنا أتحدث- فئة معينة، ولا طائفة معينة، ولا بلد معين، ولا إقليماً، ولا شيئاً، وإنما كنت ولا زلت أشعر أن هذا داء عند العام والخاص، وعند طلاب العلم، وعند الدعاة، وعند الجماعات الإسلامية، وعند الناس كلهم إلا من رحم الله، ولا أقول بأفرادهم لكن في مجمل المجتمع أنه موجود.
ولو استصحبت هذا، وتأملت الناس، لوجدت ذلك جلياً، أحياناً أقوم بفرز بعض الأسئلة التي تأتيني في المحاضرة، فأجد أن أكثر من (90%) من الأسئلة تدور حول قضايا جزئية، إذاً أين الاهتمام بالقضايا الكلية؟! هل معنى ذلك أن الناس فهموا هذه الكليات؛ كليات العقيدة مثلاً، أصول الدين، معانيه العظام، هل فهموها حتى لا يسألوا عنها؟! معرفة سبل المجرمين وأعداء الدين، مقاومتهم، حربهم، هل المعنى أنهم فهموا ذلك كله، فلم يعودوا يسألون عنه؟! كلا.
بل ربما يكون الغالب أنهم غفلوا عنه فلم يكن لهم في حساب أو في اعتبار! إن حديثي في الإغراق في الجزئيات لا يعني كان من الأحوال إهمال طلب العلم الشرعي، وأستغفر الله تعالى وأتوب إليه، كيف أدعو في محاضرة إلى إهمال طلب العلم الشرعي، وأنتم أيها الإخوة! شهود أن هذا المجلس العامر الذي يرتاده ما يزيد على 1500 بحمد لله من طلبة العلم، وهذا الدرس الآن هو رقم (109) ومنذ أوله إلى الآن وهو حديث عن مسائل العلم الشرعي، هدفه تعلم الحديث، وطالما قلنا: فلان ضعيف، وفلان حسن الحديث، وفلان صدوق، وفلان ثقة، وهذا الحديث حسن، وهذا ضعيف، وهذا له شاهد، والمسألة كذا، وقيل كذا، والراجح كذا، وبحثنا حتى المسائل التي ربما مثلت بها في الشريط المشار إليه بحثنا كثيراً منها في نفس هذه الدروس.
وربما استغرقت أحياناً درساً كاملاً في مسألة واحدة، مثل مسألة الصلاة في النعلين، أو مسالة وضع اليدين على الصدر في الصلاة، تستغرق درساً كاملاً نذكر كل أدلتها، وكل الأقوال فيها، والراجح في ما يظهر، ليس هذا يعني ترك العلم الشرعي وعدم طلبه! وكيف أدعو إلى ترك العلم الشرعي وهو بضاعتنا؟! وأنتم أيضاً بحمد لله تعرفون، وهذا مما قلت: إن الإنسان قد يضطر إلى أن يقوله: إننا منذ أكثر من ست سنين نعقد درساً يومياً بعد صلاة الفجر، لا هم لنا فيه إلا دراسة صحيح البخاري وصحيح مسلم وكتب العقيدة مثلاً كالأصول الثلاثة، القواعد الأربع وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية، وكتب المصطلح، وكتب أهل العلم كزاد المعاد وغيرها، وهذه بضاعتنا، وإذا انفض الناس عن طلب العلم الشرعي، فسينفضون -في جملة من يفضون عنه- سينفضون عنا أيضاً، فكيف يتصور هذا وثمة محاضرات كثيرة ألقيتها في مناسبات شتى، تدور حول حث الشباب، وشباب الصحوة، والناس عامة، على طلب العلم الشرعي! منها: محاضرة "العلم يقتضي العمل" و"الطريقة المثلى للتفقه في الدين" و"من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" و"من وسائل التعلم" و"مزالق في طريق الطلب" إلى غير ذلك.
فهذا ليس وارداً، ونحن نعتقد أنه لا قوام، ولا قيام، ولا صلاح للأمة، وللدعوة، إلا بطلب العلم الشرعي الذي يصحح مسيرتها.
ولا يعني الحديث في هذه المسائل عدم العمل بالسنة مثلاً، وكيف ونحن نتعلم السنة، ونعلمها، ونعمل بها، وماذا يفعل واحد منا إذا صلى، أو صام، أو حج، أو فعل شيئاً؟! إلا أن يفعل هذه السنن التي يتعلمها ويُعلمها، ولا مانع أبداً أن تبحث هذه السنة، وتعرف الراجح والمرجوح، ولكن لا يعني هذا أن هذه السنة صارت هي كل همك، فلا تتكلم إلا بها، ولا تبحث إلا عنها، ومعظم مجالسك وأحاديثك واهتماماتك تدور حولها، أو حول مسألة أو مسألتين تشبهها! وكيف يظن ذلك؟! وفي مناسبات عدة تكلمت عن السنة، وحاولت أن أدافع عنها، ومحاضرة في "أحاديث موضوعة متداولة"، ومحاضرة في "كيف ننشر السنة"، "صفة الصلاة وحكمها" هذا شريط تكلمت فيه عن هذه السنن، "الدفاع عن السنة"، "التفسير النبوي للقرآن الكريم" وغير ذلك، وكتاب حوار هادئ مع الغزالي حافل بمثل هذه المسائل وهذه المباحث.
لماذا لا تفهم الكلام على ضوء ما تعلمه من المتحدث؟! كيف تفهم أن طرق مثل هذه المسائل يعني: أننا ندعوك إلى الاشتغال بالواقع؟! لا يا أخي! نحن لا نقول: اشتغل بالواقع، قلنا: اشتغل بالدين عافاك الله! ما تكلمت قلت: اتركوا العلم، وتعالوا انزلوا للواقع، نحن نقول: ابحثوا مسائل العقيدة، وأصول الدين، وقضاياه الكلية، وكذلك قضايا الواقع هي جزء منها أيضاً.
نحن لا ندعو إلى الغفلة عن الواقع، ولا يمكن تطبيق الدين إلا بفهم الواقع، حتى تنزل الدين عليه، وتعرف أن هذا خطأ وهذا صواب، وهذا حق وهذا باطل، وهذا حلال وهذا حرام، وهذه من الأحكام الوضعية التي ينبغي أن يعلمها الناس، بل نحن ندعو إلى فهم أصول الدين وكلياته، ومقاصده العظام، وندعو أيضاً إلى بحث هذه المسائل الفرعية، والاهتمام بها، لكن دون إغراق.
فأنصفونا بارك الله فيكم! وكيف يظن أننا نتغافل، أو نتجاهل -مثلاً- عن قضية العقيدة، وقد ذكرت لكم قبل قليل أنني شرحت منها عدداً من الكتب، وعدداً من المتون كالقواعد الأربع، والأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وفي النية شرح أشياء أخرى، وثمة محاضرات كثيرة في العقيدة، "أصول الإيمان"، "أسباب تقوية الإيمان"، "غنى الخالق"، "الرضا بالله"، "من ألوان الشرك"، "مفهوم الشهادتين"، " "أفحكم الجاهلية يبغون"، "الخصائص السلوكية للفرقة الناجية"، "خصائص الطائفة المنصورة".
أم كيف يظن -مثلاً- أننا ندعو إلى ترك دراسة علم المصطلح، وهو جزء من بضاعتنا التي نهتم بها، وقد وفقنا الله تعالى إلى شرح "نخبة الفكر" للإمام الحافظ ابن حجر، وقطعنا فيها شوطاً بعيداً، وبقي منه جزء يسير، وثمة محاضرات أيضاً في المصطلح، كـ"طرق التخريج" وهي ثلاثة أشرطة إلى غير ذلك.
فلا يعني هذا إلى بحث المسائل المذكورة، ولا عدم الاشتغال بها، إنما يعني: عدم الإغراق فيها، كما أنني أود أن أشير إلى أن كثيراً من الأجزاء الحديثية، التي ألفت في مسائل أشرت إليها في المحاضرة السابقة، أنها عندي وأستفيد منها بحمد لله، وأشكر الله تعالى، ثم أشكر من ألفوها، فقد وفروا على طلبة العلم جهداً كبيراً، ومن يستطع -مثلاً- أن يتجاهل حين يبحث مسألة من تلك المسائل الأجزاء الحديثية النفيسة، التي كتبتها براعة العالم الفاضل الشيخ الدكتور بكر بن عبد الله أبو زيد، في قوة بحثه، وسلاسة عبارته، ومكانة أسلوبه، وسعة علمه.
وإنني لا أمر بمسألة أبحثها، وأعلم له فيها كتاباً، إلا رجعت إليه، أفدت من عنده، سواء أشرت إلى ذلك كما حصل في مواضع أم لم أشر إليه.
وكذلك كُتُب أخينا الشيخ فريح البهلال له عدد من الأجزاء الحديثية المفيدة، وعدد كبير لا أحصيهم، ولا يأتي عليهم الحصر من إخواننا، من هنا، ومن الكويت، ومن مصر، ومن سواها، كتبوا أجزاءً حديثية في مسائل كثيرة، في زكاة الحلي مثلاً، في صفة الصلاة، في وضع اليدين، كلنا نستفيد منها، ونتعبد الله بقراءتها ودراستها، ونشهد الله على محبة الذين كتبوها، وعلى شكرهم على ما يسروا لنا من العلم.
ففرق بين الاستفادة من هذه الأشياء، وبين كوننا نجعل هذه المسائل المطروحة هي كل همنا، وهي سبب الاجتماع بيننا أو التفرق، وهي الفيصل.
حتى ربما قال إنسان: أشهد الله على بغض فلان، لأنه خالفه في مسألة! والله فلان ربما أني أبغضه في الله، وربما أشن عليه الحرب، لماذا؟ لأنه خالفه في مسألة أو مسائل، متى كان هذا؟! على كل حال الأمثلة التي ذكرتها هنا، أو ذكرتها في تلك المحاضرة، أو في غيرها، ليست مقصودة لذاتها، احذف الأمثلة، الأمثلة لا تعنينا، لأن الاهتمام بالأمثلة من الإغراق في الجزئيات أيضاً.
خذ القاعدة العامة وهي: أننا ندعو الأمة أن تهتم بالكليات أكثر من الجزئيات، ولا تغفل الجزئيات.