ومما يلتحق بالكلام الذي ذكره الإمام ابن القيم قبل قليل، كلام آخر جميل ذكره السبكي في كتابه قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين يقول: " كثيراً ما رأيت من يسمع لفظة فيفهمها على غير وجهها، فيغير على الكتاب -يعني الكتاب الذي وجدت فيه هذه الكلمة- يغير على الكتاب والمؤلف، ومن عاشره، ومن استن بسنته.
قال: " مع أن المؤلف لم يرد ذلك الوجه الذي وصل إليه هذا الرجل، فإذا كان هذا الرجل ثقة ومشهوداً له بالإيمان والاستقامة، فلا ينبغي أن يحمل كلامه وألفاظ كتابته على غير ما تعود منه ومن أمثاله، بل ينبغي: التأويل الصالح، وحسن الظن الواجب به وبأمثاله ".
فهذه نقطة هامة: أن يفهم الكلام على عمومه، وعلى ظاهره، وعلى ما يقتضيه السياق العام، وعلى ما تدل عليه القرائن، وعلى ما عهد من قائله، دون أن تؤخذ الكلمات أو الحروف، ويجعل لها مفهوماً، ومنطوقاً، ودلالات ظاهرة وغير ظاهرة، ومعاني إلى ما سوى ذلك، فضلاً عن أن يدخل الإنسان إلى محاكمة ما في القلوب، فدع القلوب لربها جل وعلا، فهو الذي سوف يوقف العباد بين يديه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89] ويحاسبهم على الظاهر والباطن، والسر والعلانية.
فهذه نقطة، ولذلك أقول: إن الكلمات التي قد تكون أحياناً في دروسٍ، أو محاضرات، أو غيرها؛ ينبغي أن يفطن فيها إلى ذلك، ويعرف: أنه حتى جهابذة أهل العلم في هذا العصر، وفي كل عصر، يعلمون أن الخطأ في اللفظ وارد؛ سواء كان خطأً نحوياً، أم خطأً لغوياً، أم خطأً علمياً، لكن المعنى واضح، ومراد المتكلم واضح، لكنه أبدل كلمة بكلمة، وهذا كثير جداً لا يأتي عليه الحصر، في كلامي وفي كلام غيري.
ولعلي أذكر لكم أن سماحة الوالد الإمام الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله قال قبل فترة في محاضرة في الرياض، حينما سئل بعض الأسئلة، سئل عن إيراد الحديث الضعيف في المواعظ والرقائق قال ما نصه، وقد نقلت هذا من الشريط وأنا حين أنقل ذلك أرى أنه كلام للشيخ ولغيره يقول -سماحته-: " قبل الإجابة على الأسئلة أخبر الجميع أنني لا أسمح لأحد أن يكتب المحاضرة التي صدرت مني، هذه أو غيرها، أو ينشرها، إلا بعد عرضها علي، لأن النقل من الأشرطة قد يقع فيه بعض الأخطاء، فلا أسمح لأحد أن يطبعها، أو ينشرها في الصحف، إلا بعد عرضها علي لتصحيح بعض الأخطاء، ثم السماح بنشرها، فهذه وغيرها من المحاضرات، لأن بعض الناس قد ينشرون عني، أو عن غيري، بعض المحاضرات، يكون فيها أخطاء مطبعية، أم أخطاء ما فهمها من الشريط، فأرجو من جميع إخواني ألا ينشروا عني شيئاً، من محاضرة، أو تعليق على الندوة في جامع الملك خالد، أو غير ذلك مما يؤخذ من الأشرطة، إلا بعد عرضه عليَّ مكتوباً حتى يصحح، ثم ينشر بعد ذلك سواء كان مستقلاً، أو في الصحف " انتهى كلامه.
وصحيح نحن لن ننشر كلام الشيخ الآن، وإنما نقلته وقرأته عليكم فأنتم تسمعونه الآن كما يمكن أن تسمعوه في الشريط الذي تكلم فيه الشيخ، لتعلموا أن كل إنسان يعلم أن الحديث الشفهي قد لا يكون منضبطاً دقيقاً بالحروف والألفاظ، ولذلك جرت العادة أن كل كلام قبل أن يطبع، أو ينشر، بل حتى مذكرات بلوغ المرام، أنتم تعلمون جميعاً أنه حين لم يتح لي الوقت لمراجعتها، وتصحيحها أولاً بأول، وكلت إلى مجموعة من خيرة الطلاب أن يقوموا بمراجعتها وقراءتها، ومراجعتي فيما يشكل عليهم منها، حتى نصححه جميعاً، فهذه مسألة.