ضرورة عدم بتر الكلام

نعم، لا بد من التنبيه إلى وهي ضرورة عدم بتر الكلام، وهذه المسألة هي على طريقة {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ} [الماعون:4] فإن بعضهم يبتر كلامك، وينقل منه شيئاً، ويغر به الآخرين، ويضلهم بذلك، ويوهمهم أنك قلت: كذا وكذا، وأنت لم تقل، ولو نقل الكلام كله من أوله إلى آخره، بسياقه، وبجملته، لما كان له أن يُفهم الناس غير ما فهم -غير ما قصدت- ولكنه نقل بعض الكلام ثم أضاف إليه من عنده شيئاً كثيراً، يوهم الناس أنك تقصد كذا، وتعني كذا، وتريد كذا، وأن مرادك كذا، ونيتك كذا، ومقصودك وما في قلبك كيت وكيت! وهذا غير سائغ وليس من الإنصاف في شيء، فإننا نجد السلف رضي الله عنهم ينقلون البدعة ويشرحونها ثم يردون عليها.

وإني أجد كلاماً كثيراً في كلام الإمام ابن تيمية -رحمه الله- خاصة، وفي كلام ابن القيم رحمه الله أيضاً، أنه قد ينقل في صفحات كلام القوم، بل قد يعقد مناظرة بين صاحب مذهب وصاحب مذهب آخر، فيستعرض المذهب الأول في صفحات وهو يقول: قال الأول، ثم إذا انتهى رجع وقال: قال الثاني، وأتى على كل ما ذكره الأول بالنقض، والتغيير، والرد.

فلو أنَّ إنساناً نقل الكلام الأول وقال: هذا كلام ابن القيم، أو نقل الكلام الثاني وقال: هذا كلام ابن القيم لكان مخطئاً في ذلك خطأً عظيماً.

والذي ينبغي للإنسان أن يتقي الله تعالى، فلا يحرف الكلم عن مواضعه، ولا ينقل كلام الناس على وفق ما يريد وما يشتهي! وإني ذاكر لكم الآن مثالاً واحداً سئلت عنه في أكثر من مناسبة، منها مناسبة لعلكم جميعاً اطلعتم عليها، سألني عنه أخي الكريم الأستاذ الشاعر: عبد الرحمن العشماوي في المقابلة التي أجراها معي، ونشرت بعنوان (على طريق الدعوة) فقد ذكر لي أن بعض الناس يقولون عني أني سئلت منذ زمن، في أول أحداث الخليج في العام الماضي عن الحرب، فقلت: إنها لن تقوم حرب، وأبشر بطول سلامة، فتعجبت من ذلك! ولم أكن حين سألني هذا السؤال متذكراً كل ما قلت، فذكرت الجواب الذي سمعتموه، وهو جواب صحيح على كل حال.

ولكنني بعد ذلك رجعت إلى الكلام الذي قلته، وكتبته في هذه الورقة، كتبت السؤال والجواب، حتى تفهموا وتعلموا كم يجني الناس على الكلام الذي ينقلونه، وتعرفون مصداق ما قيل: وما آفة الأخبار إلا رواتها مع أنه كلام مسجل في شريط سمعه الداني والقاصي، الخاص والعام، ومع ذلك يقع اللبس! وأنا أقرأ عليكم الآن نص السؤال، ونص الجواب.

Q ماذا يكون علينا إذا قامت الحرب على العراق؟ هل نذهب إلى الجبهة ونترك النساء والأطفال، ونذهب إلى الحرب إذا لزم الأمر؟

صلى الله عليه وسلم الذي أعتقده، أن الحرب مع العراق -والله تعالى أعلم- لن تقوم بشكل حرب مع العراق، لأن قوى الدول الغربية أحضرت أسلحة وقوىً هائلة تستخدم لأول مرة في العالم، وهذه القوى أحضرت من أجل ألا تكون حرب بين أمريكا والعراق، وإنما من أجل أن تضرب أمريكا ضربتها على العراق، وتنهي وجوده خلال 7دقائق -كما تقول التقارير- أي: تنهي قوته خلال 7دقائق، ولا يكون هناك حاجة للحرب أصلاً، هذه خطتهم، وهذا تفكيرهم، وعلى حسب إمكانياتهم، فإن هذا الأمر ليس مستبعداً، ويكفي أن عندهم من الطائرات ما يسمونها: بطائرات الشبح، التي خلال حركة بسيطة -وهي لا يمكن أن تكشف بالرادار- تستطيع أن تدمر وسائل الاتصالات بالدولة المحاربة، من الهاتف، والخطوط، والكهرباء، وغيرها، وبذلك تنشل حركة الدولة ويسهل القضاء عليها.

فلا أعتقد أن هناك حرب حقيقية نحتاج أن نجند أنفسنا في هذه الحرب، لكن المؤمن يجند نفسه في كل وقت، لأن الخطر ليس معناه خطر العراق فحسب، فإذا ذهب العراق ذهب الخطر، لكن قد يكون الخطر من النصارى أنفسهم، من اليهود، لماذا نستبعد هذا؟! فالمؤمن يجب أن يستعد ويتدرب على التسلح، ويربي نفسه تربية عسكرية.

أما هذا السؤال فإني أقول: أبشر بطول سلامة إن شاء الله! انتهى الكلام.

مقصودي من هذا الكلام أن أقول: ظاهر من السؤال ومن الجواب، إذا فهمناه بالصيغة التي ذكرته لكم قبل قليل، أن السائل يتساءل هل يذهب هو ويترك أطفاله وزوجته في البيت، بدون أحد يقوم عليهم؟ لأنه تصور أنه سوف تقوم حرب تحتاج إلى استنفار، وإلى تجنيد الأمة بكاملها، وإلى أن يخرج الرجل ويترك أهل بيته ويترك أطفاله، ويترك عمله.

فكان الجواب: أبشر بطول سلامة إن شاء الله، لن يحتاج إلى مثل هذا الأمر، لماذا؟ لأن هناك قوى كبيرة، وكثيرة مدججة، ستجعل إمكانية القضاء على قوة العدو -وهو العراق آنذاك- أمراً لا يحتاج معه إلى حرب بالمعنى الصحيح، بقدر ما هي ضربة موجعة تنهي قوة العدو.

وهذا الكلام نستطيع أن نقول: إنه بهذا الإجمال هو الذي حصل فعلاً.

وأما مسألة أنه لن تقوم حرب، أو لن يكون هناك حرب أصلاً، فلا أذكر أني قلت ذلك، وهذا هو الموضع الوحيد الذي اعتمد عليه البعض في ما ذكر.

ثم لنفترض أنني أو أن غيري من الدعاة قال: إنه يتوقع ألا تقوم حرب، ثم حصل الأمر خلاف ما ظن وخلاف ما توقع، فماذا كان يعني هذا؟ نحن نعلم أن كثيراً من التحاليل الغربية، بل (60%) منها كانت تتوقع أن لا تقوم حرب، والمحللون أناس مختصون، وعلى أرقى المستويات، وبعضهم في مواقع المسئولية.

وقد قرأت لوزير الخارجية في الاتحاد السوفيتي آنذاك، بالخط العريض، أنه لن تقوم الحرب، وهو رجل في موقع المسئولية في دولة كبرى، فضلاً عن المحلليين الذين توقعوا ذلك وهم كثير، فماذا يضير هذا! بل قرأنا جميعاً في صحيفة سيارة لكاتب وأديب معروف، وهو يشغل منصباً دبلوماسياً أيضاً في بلد ما، أنه قال بالخط العريض، أنه لن تقوم حرب، وأنه سينسحب العراق في اللحظات الأخيرة، واضطر بعدما قامت الحرب إلى أن يكتب في الصحيفة اعتذاراً عن ذلك، وبياناً أنه أخطأ في التوقع، ولن يكون له بد في أن يكتب اعتذاراً لأن الكلام كتب في الجريدة ولا يمكن أن يتناساه أو يتجاهله.

فماذا كان بعد هذا؟ ولماذا تكون الكلمات التي يقولها الدعاة هي التي في المحك؟ صحيح أننا نفرح باهتمام الناس بكلام طلبة العلم والدعاة، وعنايتهم به، لكن أيضاً ينبغي أن يفهم هذا الكلام في إطاره العام، وأن يوضع في موضعه، فهذا ظن إنما ظننت ظناً، حتى الذي توقع أن لا تقوم الحرب يقول: إنما ظننت ظناً.

وَهم ليس بنص، ولا مبني على نص، وإنما هو احتمال وتوقع قابل للخطأ وللصواب، وأثبتت الأيام أنه غير صحيح وأنه خطأ.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015