كان ما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم: يا معشر العرب! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، كلمة تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، وتدخلون بها الجنة، فلما قال هذا حاربوه ونابذوه، وقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] .
فبدأ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى التوحيد، وإلى تصحيح العقيدة، وإلى علاج القلوب من أمراضها وأوبئتها؛ ولذلك أستطيع أن أقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أحدث -كما يقولون بلغة العصر الحاضر إن صح التعبير- ثورة كبيرة وشاملة في معتقدات العرب، وحياتهم وتصوراتهم العقلية والقلبية، وترتب على هذا أن انسلخ العرب والمسلمون عموماً -الذين آمنوا بالرسول صلى الله عليه وسلم- انسلخوا في قلوبهم بالكلية من عبادة غير الله تعالى، ووجهوا قلوبهم وأفئدتهم وأرواحهم وحياتهم إلى الله تعالى، فكان أحدهم يقول: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163] فما عاد الواحد منهم ينظر إلى الصنم الذي كان يعبده بالأمس نظرته إليه التي كان ينظرها إليه بالأمس أو بالبارحة، كلا! بل كان يقول: هجرت اللات والعزى جميعاً كذلك يفعل الجلد الصبور فلا العزى أطيع ولا ابنتيها ولا صنمي بني عمرو أزور ولكن أعبد الرحمن ربي كذلك يفعل الجلد الصبور فانقلبوا من مشركين وثنيين كانت الأصنام تتحكم فيهم كل شيء، حتى إذا أراد الواحد منهم -مثلاً- أن يتزوج، ذهب يستشير الصنم، وإذا أراد أن يسافر ذهب يستشير الصنم ويستقسم بالأزلام، وإذا أراد أن يبرم أمراً، أو يعقد صلحاً، أو يثير حرباً، فإنه يذهب إلى هذا الصنم، ويستشيره عن طريق الاستقسام بالأزلام، لكن لما جاء الإسلام انسلخت قلوبهم من هذه العبودية لهذه للأصنام، وتوجهوا بأفئدتهم وقلوبهم وأرواحهم وعقولهم إلى الله تعالى، فتحولوا من مشركين وثنيين إلى عباد موحدين صادقين في عبادتهم وأعمالهم وأقوالهم، بل صار الواحد منهم يوجس خيفة حتى من أي أمر كان عليه في الجاهلية، حتى الأمور العادية في الجاهلية صاروا يتوجسون منها خيفة، فيحتاج إلى أن ينزل قرآناً يقول: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:235] كما في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة:158] .
لأن هذه كانت من عادات الجاهلية، وهم عندما أسلموا انسلخوا عن كل ما يمت إلى الجاهلية بنسب أو صلة أو سبب، فيحتاجون إلى أن يقول: لا مانع في هذا وإن كنتم عليه في الجاهلية.
إذاً: القضية التي حصلت والتغيير الذي جرى والثورة التي أحدثها الإسلام في معتقدهم، هو أن غيَّر معتقدهم بشكل كلي ونهائي، وتبعاً لتغير المعتقد تغيَّرت حياتهم كلها، فتغيّرت قناعاتهم، وتصرفاتهم، وعاداتهم، وأخلاقهم، لكن هذا كله كان تبعاً للتغيير الداخلي الذي أحدثه الرسول صلى الله عليه وسلم في قلوبهم.