عظمة التغيير وبعد النقلة

أيها الأحبة: حتى تعرفوا التغيير العظيم الذي فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، تصوروا تغيير قناعة الإنسان في أمر من الأمور، لو أن إنساناً مقتنعاً برأي شخص معين يقول لك: هذه الحارة مناسبة جداً، وأحسن حارة نسكن فيها، فإنك تجلس معه حتى تقنعه بأن الحارة غير مناسبة وتحتاج إلى ساعة أحياناً، وبعد الساعة يمكن أن يقتنع، ويقول: والله أنت فعلاً قدمت لي معلومات جديدة تشكر عليها، وأنا غيَّرت رأيي، وأحياناً يمكن يقول: لك رأيك، ولي رأيي.

إذا كان تغيير قناعة الإنسان بأمر زهيد يتطلب وقتاً طويلاً، فما بالك بتغيير عقيدة الإنسان في كل شيء؟! وليست القضية دنيوية، تترتب عليها خسارة أو ربح؛ لأن الدين يقول لك: إن الذي لا يدين بهذا الدين كافر، والكافر مخلد في النار فالقضية خطيرة.

إذاً: تصور إمكانية تغيير عقلية الإنسان وعقيدته في كل شيء؛ بحيث إن هذا الإنسان سيدخل في الدين الجديد مثلاً، من الجاهلية إلى الإسلام، وبناءً عليه سوف يحكم بأن كل ماضيه فاسد، وكل جهوده السابقة ضائعة سدى، وأن آباءه وأجداده كانوا كفاراً، وأنهم من أهل النار.

هذه عقيدة المسلم لما دخل في الدين؛ ولهذا كان من أكثر الأشياء التي أكثر المشركون من الحديث حولها، أنهم يقولون: سفّه أحلامنا، وعاب آلهتنا، وضلل آباءنا وأجدادنا، هذه القضية صعبة أنهم يعتقدون هذا الأمر في آبائهم وأجدادهم، بل وفي حياتهم السابقة، وأن يضلوا ويفسقوا ويكفروا من كانوا قبلهم ممن ينظرون إليهم نظرة إعجاب وإكبار وإعظام.

وبذلك تعرف خطورة انتقال الإنسان من دين إلى دين خطيرة جداً، فما بالك إذا كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لم يغير واحداً فقط، ينقله من الجاهلية إلى الإسلام؟ لا! بل غيّر أمة بأكملها، وغيّر مجتمعاً، حتى أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1-3] أي لما جاءه الأجل، وكان الناس قد دخلوا في دين الله أفواجاً، الجزيرة من أقصاها إلى أقصاها، ومكة خضعت للإسلام، وجاءت الوفود تبايع النبي صلى الله عليه وسلم من كل أنحاء الجزيرة العربية؛ ولذلك العام التاسع يسمى عام الوفود في السيرة، لأن الناس بايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام.

إذاً: أحدث الرسول عليه الصلاة والسلام تغييراً جوهرياً وجذرياً وعميقاً وداخلياً، وتغييراً في الباطن والظاهر أيضاً.

من السهل تغيير الظاهر فقط، مثلاً: لو أن دولة أرادت تغيير التاريخ من الهجري إلى الميلادي، وهي دولة لا تراعي حرمات الله مثلاً، ولا تعتبر أن هذا العمل حرام، فماذا تفعل؟ تصدر قراراً، ونحن نعرف بأن هذا القرار غَيّر التاريخ في بلاد الإسلام كلها، إلا هذا البلد فلا يزال، وهناك محاولات كثيرة وجادة من أطراف عديدة لتغيير التاريخ من هجري إلى ميلادي، وهذا الأمر معروف، والمحاولات أصبحت مكشوفة من قبل عدد من الأطراف والشركات وغيرها.

المقصود كيف غُيّر التاريخ الهجري؟ بقرار اعتباراً من تاريخ كذا وكذا يعمل بالتاريخ الميلادي، أمر خطير، لكنه غُيّر بقرار؛ لأنه أمر ظاهري عمل الناس به.

قضية أخرى، تغيير الزي مثلاً، كمال أتاتورك لما أراد أن يغير أثر الإسلام في تركيا، مثلاً عندما أراد أن يغير اللبس الإسلامي بلبس القبعة الأوروبية، أصدر قراراً بهذا، واضطر الناس إليه ولبسوه، كذلك هو أفلح في تغيير عقول الناس أيضاً، ولكن المقصود أن تغيير المظهر أسهل، وهكذا لو أن حاكماً أو دولة أو مصلحاً أراد أن يغير مظهر الناس في ملبسهم، وفي عاداتهم وتقاليدهم، فإنه يغيرَّه بقرار قد يعارض أول الأمر، ولكن بعد ذلك يستسلم الناس له، وتنتهي المشكلة.

لكن القضية التي أحدثها الرسول عليه الصلاة والسلام أخطر وأكبر من ذلك، ما كان تغيير النبي عليه الصلاة والسلام عبارة عن تحويل قيادة إلى قيادة، فبدلاً من انقيادهم لـ أبي جهل وأبي لهب صاروا يتبعون أبا بكر وعمر، كلا! وما غير النبي صلى الله عليه وسلم أموراً مظهرية فقط، بل غيَّر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً عقولهم وقلوبهم بحيث أصبحت تدين لله تعالى، ولا تُعظّم إلا الله، ولا تتعبد بالحب والخوف والرجاء والتعظيم والذل إلا لله سبحانه وتعالى، فلما تغيرت قلوبهم تغيرت كل أحوالهم، فتغير سلوك الشخص، ومظهره، ولباسه، وشكله، وتغيرت المرأة، والرجل، والمجتمع، وتغيرت العادات، والتقاليد، وأمور السياسية، والاقتصاد، وتغيرت كل الأمور، لكن هذا التغيير أهميته كانت في أنه تغيير قلبي قبل أن يكون تغييراً مظهرياً.

لم يكن التغيير إذاً الذي عمله الرسول صلى الله عليه وسلم بالأمر الهين اليسير، بل لعله -كما عبر عنه أحد الباحثين- هو أكبر وأعظم تغيير في التاريخ كله، وهذا أقل ما يقال عن دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كلهم لم يفعلوا كما فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولعله من أكثر الأنبياء أتباعاً حتى من موسى وعيسى عليهم الصلاة والسلام، ونحن نجد أن النبي عليه الصلاة والسلام كما في الحديث الذي رواه ابن عباس وهو في الصحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم عرضت عليه الأمم، فرأى النبي ومعه الرجل، والنبي ومعه الرجلان، والنبي ومعه الرهط، ورفع له سواد عظيم، فظنه أنه أمته فقيل: هذا موسى وقومه، ولكن انظر إلى الأفق، فإذا سواد قد سد الأفق! فقيل: هذه أمتك!} إذاً: التغيير الذي فعله موسى لا يقاس بالتغيير الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام، هذا من حيث العدد، ومن حيث كثرة الأتباع، وكذلك من حيث نوعية التغيير وقوته، فنحن نجد -مثلاً- أن أتباع موسى عليه الصلاة والسلام آذوه، ولهذا قال الله للمؤمنين من هذه الأمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب:69] صبر عليهم صبراً عظيماً عليه الصلاة والسلام، كل مرة وهم يقترحون عليه شيئاً: {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} [البقرة:55] ألا تستحيون من أنفسكم؟! بعد فترة: {يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة:61] وبعد فترة {أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} [الأعراف:129] كأنهم يقولون: ما عملت لنا شيئاً من قبل ومن بعد، المسألة هي هي، آخر ما فعلوا: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ * يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا} [المائدة:21-22] والآية التي بعدها: {إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَداً مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] .

انظر إلى الأمر العجيب! يقول: ادخلوا الأرض المقدسة، فيقولون: لا! حتى يخرج أهل الأرض، ويقولون: تفضلوا وادخلوا، وهذا لا يمكن أن يكون.

ولهذا صبر عليهم موسى عليه الصلاة والسلام، ولهذا في حادثة الإسراء والمعراج، لما فرض الله تعالى على النبي صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة، مرّ على موسى، فقال قال له موسى عليه السلام وهو قد جرب أمة من شر الأمم، كل يوم وهم يقترحون، إني قد جربت الأمم قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وأمتك لا تطيق، ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف، ويرجع حتى صارت خمس صلوات، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إني قد جربت الأمم قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، وإن أمتك لا تطيق، فاذهب إلى ربك فاسأله التخفيف، قال: قد استحييت من ربي ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هي خمس في العدد وخمسون في الأجر والثواب والمكانة وهذا فضل الله تعالى.

المقصود أن موسى عليه الصلاة والسلام لاقى من بني إسرائيل ما لاقى، حتى آذوه في شخصيته عليه الصلاة والسلام، فمرة كما في الصحيح قالوا: إن موسى آدر -أي: عظيم الخصية أعضاؤه التناسلية ليست متناسقة- عيَّروه بهذا وهم كاذبون، لكنهم قوم بهت، حتى أن الله تعالى بَّرأه مما قالوا، ففي يوم من الأيام كان يغتسل عرياناً، وكان بنو إسرائيل يغتسلون عراةً، فخلع ثيابه، ونزل يغتسل، ووضع ثيابه على حجر.

فالله تعالى أمر هذا الحجر أن يهرب بثيابه، فذهب الحجر بثيابه، فرآه موسى وقد طارت ثيابه، فخرج من البركة وهو يركض وهو يقول: ثوبي حجر! ثوبي حجر! يصرخ ويصيح بالحجر: تعال أعطني ثوبي! حتى وقف الحجر ونظر الناس من بني إسرائيل إلى موسى عليه الصلاة والسلام، وإذا هو أكمل وأجمل خلق الله! ليس فيه عيب ولا آفة، فبرأه الله مما قالوا، وعلموا أنهم كانوا كاذبين، فبدأ موسى يضرب الحجر، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لندب في الحجر من أثر ضرب موسى عليه الصلاة والسلام له} .

المقصود أن حجم التغيير الذي أحدثه النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة لا يقاس به تغيير قط، حتى من الأنبياء مع أنهم جميعهم عليهم الصلاة والسلام قاموا بالمهمة الجلية العظيمة خير قيام، ولكن كما قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [البقرة:253] إلى آخر الآيات.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015