نقطة ثالثة: أن العالم الثالث، والعالم الرابع -أيضاً- وهما العالم الإسلامي والعالم العربي، وما حولهما من الدول الفقيرة، ممن يسمونه بالعالم الثالث -لم تكن تشمله- مظلة الحلفين العالميين آنذاك، ولذلك كانا مجالاً للتنافس الشديد بين روسيا وأمريكا، وكان فيه مناطق كثيرة ملتهبة تكون نتيجة الصراع ونتيجة حروب تدار بالوكالة بين أمريكا وروسيا وضحية هذه الحروب هم من شعوب المسلمين ومن شعوب العرب الذين يقاتلون بالوكالة عن أمريكا أو يقاتلون بالوكالة عن روسيا.
وقد أدى ذلك الصراع أو الحرب الباردة بين أمريكا وروسيا في السابق إلى شل ما يسمى بهيئة الأمم المتحدة عن فعاليتها وتأثيرها؛ بسبب أنه نشأ في أثنائها تحالفات بين روسيا ودول عدم الانحياز من جهة وبين أمريكا وحلفائها من جهة أخرى، أما الآن فبعدما سقطت الشيوعية وتفككت الإمبراطورية الروسية فإننا أمام قوة عالمية الآن واحدة هي التي تهيمن على معظم العالم الموجود الآن وهو قطب عالمي واحد، وهذا بلا شك لفترة معينة، وإلا فنحن نعلم ونجزم بأنه كما قال صلى الله عليه وسلم: {حق على الله ألا يرتفع شيء إلا وضعه} .
إذا تم شيءٌ بدا نقصه ترقب زوالاً إذا قيل تم كما أننا نعلم أن الله عز وجل جعل قوام هذه الدنيا على أساس وجود المداولة قال سبحانه: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] .
وعلى أساس مبدأ الصراع، أو كما سماه الله تعالى في القرآن الكريم الدفع: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:251] .
فمبدأ الدفع أو مبدأ الصراع بين القوى المختلفة، فيه بقاء للحياة؛ حتى الحرب نفسها فيها بقاء للحياة: والناس إن تركوا البرهان واعتسفوا فالحرب أجدى على الدنيا من السلم فالحروب الإسلامية التي شنها المسلمون أيام العز وأيام النصر وأيام التمكين، كانت ظلاً ينبت الخضرة وينبت النماء والخير والإيمان وينبت الطاعة لله عز وجل -في ظل تلك الحروب- فكانت حروباً لفتح القلوب قبل فتح البلاد.
فالمقصود أن الله تعالى وضع من سنن هذا الكون مبدأ الدفع، أي دفع الناس بعضهم ببعض ومبدأ مداولة الناس فيما بينهم وتلك الأيام نداولها بين الناس ينال هؤلاء من هؤلاء، وهؤلاء من هؤلاء؛ فلا نتصور أبداً أن الغرب الرأسمالي أو أن أمريكا أو غيرها سوف تتفرد بالهيمنة على العالم إلا خلال سنوات يسيرة أو عقود قليلة، وهذا أمر لا يعتبر بالمقياس العام شيئاً، فإن الإنسان وإن كان ينظر إلى الأيام والساعات والشهور والسنوات، إلا أن الأمر أبعد من ذلك، فعشر أو عشرون أو ثلاثون سنة في حياة الأمم والشعوب؛ لا تعد شيئاً وأنت الآن تنظر إلى روسيا وقد عاشت عشرات السنين وتجد أنها أصبحت حطاماً متفتتاً فلا تعد هذه السنين؛ الطويلة التي عاشتها في ظل قهرها للإيمان وقهرها للعقول، وللقلوب، وللفطرة لا تعد هذه الأيام وهذه السنوات بل عشرات السنين، لا تكاد تعدها شيئاً يذكر، وهذه من طبيعة الإنسان، فيرى الواقعة القائمة عليه سرمداً لا يزول.