خامساً: الدين والأرض: إن الهجرة هي مهاجرة الأرض التي أقام فيها الإنسان، ونشأ فيها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة: {إنك لخير البلاد وأحب البلاد إلى الله} فإن من طبيعة الإنسان أن يحب بلده ووطنه ويرتبط به، فذكريات الطفولة، والصبا، والأقارب، والعلاقات، والتاريخ، كله في هذا البلد الذي عاش فيه الإنسان، ولذلك هو نقطة ضعف يأتي منها الشيطان إلى الإنسان، وطالما تحدث أولئك الأدباء والشعراء عن ارتباطهم بوطنهم ارتباطاً قد يصل أحياناً إلى درجة العبودية: وحبب أوطان الشباب إليهم مآرب قضاها الشباب هنالكا إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهمُ عهود الصبا فيها فحنو لذلكا بل يقول شاعر مسلم: ويا وطني لقيتك بعد يأس كأني قد لقيت بك الشبابا أدير إليك قبل البيت وجهي إذا فهت الشهادة والمتابا نعم هذا الشاعر اسمه أحمد، وهو يعلن محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويمتدح المسلمين، ولكن يصل به التقليد الجاهلي إلى حد أن يخاطب وطنه أنه يدير وجهه إليه قبل أن يديره إلى البيت العتيق، نعم إن محبة الوطن نقطة ضعف أحياناً يستغلها الشيطان، فهو يأتي إلى الإنسان بعدما أسلم وهم بالهجرة، كما في حديث صبرة بن الفاكة، وهو عند النسائي وأحمد وسنده صحيح: {يأتيه الشيطان فهو يقول له: تهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس تقيده بالحبل} يقول: المهاجر مأسور لا أقارب له، ولا علاقات، ولا صداقات، ولا مبني ولا سكن، ولا وظيفة، ولا مرتب، ولا تاريخ، فهو منبت الجذور منقطع، لا علاقة بذلك البلد الذي هاجر إليه، فكيف تهاجر لتكون مثل الفرس المربوط بحبل لا يستطيع أن ينفلت منه؟! {أما المؤمن فيعصي الشيطان ويهاجر إلى الله عز وجل، فإذا هاجر ومات في الطريق، كان حقاً على الله عز وجل أن يرضيه} قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} [الحج:58-59] .
لقد أراد رجلٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يهاجر، فمنعه أهله، وحبسوه، فمرض واشتد به المرض، فأشفق عليه أهله، وقالوا له: ماذا تريد؟ تريد طعاماً، شراباً، طبيباً؟ ولكنه لا يستطيع الكلام ولكنه يشير بيده صوب المدينة وهو بمكة، أو يشير برأسه صوب المدينة، يقول: لا أريد شيئاً، كل مطلبي أن تأذنوا لي أن أخرج للوجه الذي أردت، فقد اختصرت الهموم عنده كلها في هم واحد، وهو الدعوة إلى الله وصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجهاد في سبيل الله تعالى، فأشفق عليه أهله فأخرجوه من مكة، فلما كان بعد مكة على مسافة بضعة أمتار، قبضت روحه، فأنزل الله عز وجل هذه الآية الكريمة.
نعم إن النعرة الجاهلية قد تسمي التعلق بالوطن وطنية، وهو شعار خادع طالما رفعه كثير من العلمانيين ليخدعوا به الناس، ويصوروا لهم أنهم هم أولياء الوطن، وهم المدافعون عن حقوق الوطن، وهم الحريصون على مستقبل الوطن، وهم الذين يعملون على وحدة الصف، واستقرار الاقتصاد، وعلى حفظ كل مكتسبات بلادهم، يصورون هذا الأمر خلال قصائدهم، وكتبهم، وشعاراتهم البراقة التي يرفعونها بمناسبة وبغير مناسبة.
أما المفهوم الشرعي الصحيح للوطنية، فهو أن الإنسان لا يلام على محبة بلده، فهذه أمور فطرية طبيعية، لا تحمد ولا تذم بذاتها، وحديث: "حب الوطن من الإيمان" الذي يردده البعض هو ليس بحديث في الحقيقة، وإنما يظنه البعض حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والواقع أنه لا أصل له، أما الوطن فيحبه الإنسان لهذا الاعتبار، ولكن وطن المسلم الحقيقي هو الذي يهيمن عليه الإسلام، ولو حالت الحدود الجغرافية، أو السياسية، أو الطبيعية، إذ لا يعتبر الإنسان وطنه الذي ولد فيه، أو عاش فيه، وإن كان محارباً للدين، أو بعيداً عن الشريعة، ولهذا يهاجر المسلمون حتى من مكة نفسها إلى الحبشة، إلى الطائف، إلى المدينة، إلى كل بلد في الدنيا، يهاجرون ويبحثون عن النصرة والإيواء، ويبحثون عن مكسب لهذه الدعوة ولهذا الدين.
الجهاد الذي يرفع، ليس ذوداً عن تراب الوطن، فإن تراب الوطن لا يجوز أن يتخذ وثناً يتعبد ويمسح كما قال قائلهم: وطني لو صوروه لي وثناً لهممت ألثم ذلك الوثنا كلا! إنه قد يكون الوطن وثناً يعبد من دون الله عز وجل أحياناً، حينما يختصر الإنسان أهدافه بالدنيا في هذا الوطن، لا يهمه أن تكون راية هذا الوطن علمانية، أو قومية، أو اشتراكية، أو بعثية، المهم عنده هو التراب، ماذا صنع الذين يقاتلون من أجل زيتون يافا، وماذا صنع أولئك الذين يقاتلون من أجل تراب صحرائهم؟! وماذا صنع أولئك الذين يمتدحون بتاريخ جاهلي في عهد الإغريق، أو الآشوريين، أو الفينيقيين، أو الرومان، أو غيرهم؟! إنهم لم يصنعوا لأوطانهم أي مكسب حقيقي، الجهاد إنما يكون في سبيل الله عز وجل، والوطن الذي يقاتل دونه المسلم ويحرص عليه هو الوطن الذي تقام فيه شريعة الله، ويرفع فيه نداء الأذان، وتقام فيه المساجد، ويتواصى الناس فيه بالحق، وبالصبر، وتقوم فيه الدعوة إلى الله عز وجل، وتقوم العلاقة بين أفراده على أساس الدين الذي وحد أهله وجمع كلمتهم.
إن الارتباط بالأرض والتعلق بها، لا يبيح للإنسان أبداً أن يترك السياحة في سبيل الله، السياحة للجهاد: {سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله} السياحة للدعوة.
أيها الأحبة: نعلم جميعاً أن هناك من يجلس في بلد غربي، كأمريكا، أو بريطانيا -مثلاً- أكثر من اثنى عشرة سنة، حتى يحصل على شهادة الماجستير، ثم الدكتوراه، في أي تخصص، وهذا قد يكون حاجة للمسلمين في بلادهم في أي بلد كان، وقد يكون ضرورة لا مخلص منها بسبب تفريط المسلمين في تحصيل العلوم، وإقامة المراكز العلمية، والجامعات التي تستقبل المواهب والطلاب وتخرجهم، ونعلم أنه قد يوجد في تلك البلاد وغيرها من استقر استقراراً أبدياً بقصد التجارة؛ لأن فرص التجارة أعظم وأوسع من فرص التجارة في بلاده الأصلية، ونعلم أن هناك من يجثو عشر سنوات أو أكثر في تلك البلاد لأنه يقتعد وظيفةً تقتضي بقاءه هناك، كل هذا يُفعل، فهل تعلمون أن هناك من جلس مثل هذه السنوات أو أقل منها أو أكثر في بلد حتى ولو كان بلداً إسلامياً، ولكن غير البلد الذي نشأ فيه، وقامت فيه علاقاته وارتباطاته هل تعلمون من جلس مثل هذه المدة بهدف الدعوة إلى الله عز وجل؟! بل أقول أهون من ذلك: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام فقط في الإجازة في أي بلد إسلامي من أجل الدعوة إلى الله؟ أو من أجل التطبيب والعلاج؟ أو من أجل الإغاثة الإنسانية؟ أو من أجل لون من ألوان المساعدة المادية أو المعنوية للمسلمين المنكوبين في أي بلد كان فوق أي أرض وتحت أي سماء؟ بل أتنازل أكثر من ذلك وأسأل: كم عدد الذين يبدون استعدادهم لقضاء عشرة أيام في جولة وعظية داخل بلدهم؟ يخرجون فيها عن حدود إقليمهم، أو منطقتهم، ليقوموا بالدعوة ويزوروا طلبة العلم، ويجلسوا إلى القضاة، ويرتادوا المساجد والمراكز، وحلق العلم، ويجلسوا إلى أهل الخير، وينشروا الكتاب، ويوزعوا الشريط، ويقولوا كلمة الحق، ويأمروا الناس بالمعروف وينهوا الناس عن المنكر؟ كم عدد المستعدين لأن يقوموا بجهد كهذا عشرة أيام فقط خلال إجازة طويلة؟ إننا نستقبل اليوم هذه الإجازة، وأنا أقرأ اليوم وأتصفح الجرائد، فإذا بنا نقرأ إعلانات كثيرة عن فرص تعلنها مدن ترفيهية، أو شركات، أو وكالات سفر، أو غيرها تعلنها لإتاحة الفرصة لسفر الصغار، والكبار، والأطفال، والأسر والعوائل، إلى مركز الترفيه في فرنسا، أو غيرها من بلاد الغرب، أو حتى من بلاد العرب والمسلمين، وأن هناك كافة التسهيلات لمثل هذا العمل، حتى إنه يوجد فنادق في بريطانيا وغيرها مخصصة لاستقبال الأطفال، حتى يتمكن أهلهم من وضعهم في تلك الفنادق، ثم ينطلقون على راحتهم حيث شاءوا بعيداً عن صخب الأطفال وضجيجهم، ثم يستقبل هؤلاء الأطفال منصرون يعلمونهم اللغة، ويربونهم على غير دين الإسلام.
نعلم أن هناك تسهيلات كثيرة لمثل هذا العمل، ونعلم يقيناً أن هناك من أبناء المسلمين من ينخدع بهذه الدعايات، أو يستجيبون لها فهل يستجيب الخيرون والصلحاء للدعوات إلى القيام بجهد مقابل هدفه الدعوة إلى الله، هدفه الإصلاح، هدفه محاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أبناء المجتمع؟!