سلعة الله غالية

سابعاً سلعة الله غالية: لقد عرضت قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم الملك: إن كنت تريد ملكا ملكناك، ولكنه صلى الله عليه وسلم رفض؛ لأنه لم يكن طالب ملك، وإلا لقبل عرض قريش، واستطاع بحنكته، وحكمته، وأخلاقه عليه الصلاة والسلام توجيه قبائل العرب، وتوحيدها تحت لوائه، لكنه لم يكن مصلحاً قومياً، ولا زعيماً دنيوياً، ولا حاكماً وطنياً، وإنما كان رسول رب العالمين.

إن أصحاب العقائد، وأهل المثل، ورجال القيم، ورجال الدعوة، يزدرون حطام الدنيا، ومتاعها، وينظرون نظرة شفقة ورثاء، لأولئك الذين يلهثون ورائها، نعم هم جبلوا كغيرهم على ما زين للناس: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} [آل عمران:14] ولكنهم يأسرهم هذا بهذا الحب، بل آثروا الله تعالى ورسوله والدار الآخرة، وهذا واحد منهم يهم بالجهاد فتمسك به زوجه: إلى من تتركنا؟ أين تذهب وتدعنا؟ فيقول: يا بنت عمي كتاب الله أخرجني كرهاً وهل أمنعن الله ما فعلا فإن رجعت فرب الكون يرجعني وإن لحقت بربي فابتغي بدلا ما كنت أعرج أو أعمى فيعذرني أو ضارعاً من ضنى لم يستطع حولاً أنا لست بأعرج ولا أعمى ولا مريض حتى أعذر بل أنا قادر، فلابد أن أخرج، فإن ذهبت فابتغي بدلاً عني، وإن بقيت فهذا من الله عز وجل، نعم! إن أهل الدين وأهل الدعوة لا ينظرون إلى الدنيا إلا كما ينظرون إلى الفراش الذي يجلسون عليه أو كما ينظرون إلى الدآبة التي يركبونها، فهم يستخدمونها ولا يخدمونها، أصغر ما يكون في عيونهم المال، والجاه، والشهرة، والسلطة، والمنصب، والكرسي، كلها لا تعد بالنظر إليهم شيئاً.

وقف الإمام ابن تيمية -رحمه الله- أمام حاكم من الحكام، وشي به إليه وقيل له: إن ابن تيمية ينافسك على الملك، وإنه يخطط لقلب نظام الحكم، فقال له ابن تيمية: أنا أريد ملكك، والله إن ملكك وملك التتر لا يساوي عندي فلساً، أنا رجل ملة ولست رجل دولة! نعم! العالم والداعية متوج بتاج لا يقبل العزل أبداً، ولايته ربانية لا تقبل العزل، فهو مبلغ وموقع عن رب العالمين، كما ذكر الإمام ابن القيم، ومترجم عن الله تعالى كما ذكر القرافي وغيره، ومفتٍ يتكلم بالكتاب والسنة، والناس يطيعونه من هذا المنطلق، فولايته ولاية شرعية لا تقبل العزل، ولا الإقصاء، ولا الإبعاد، ولا التغيير، ولا التبديل، وهو يرضى بهذا، فلا ينظر إلى متاع الدنيا إلا نظرة ازدراء واحتقار.

أما مرضى القلوب الذين تعلقوا بالدنيا، واتخذوا من الدين أو من الدعوة، أو من التمسح بالإسلام، ذريعة إلى مثل هذا، فهم لا شك فئة لا يخلو منها زمان ولا مكان، ولكن الحق أبلج، والباطل لجلج، ودولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، وأمر الله تعالى غالب، فإن الله تعالى لا يكتب البقاء والاستمرار والفضل، إلا لمن يعلم أنهم لذلك أهل، أما الذين يريدون الدنيا فقد يعطيهم الله تعالى بعض ما يريدون في الدنيا، ثم يكون مصيرهم النار: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18-19] .

لقد خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة وحيداً شريداً، لأنه يعرض عقيدة التوحيد: {يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} لم يكن بينه وبينهم إلا هذا الأمر، ما قال لهم يوماً من الأيام: إني أريد دنياكم، أو أريد أموالكم، أو أريد شيئاً من هذا، إنما دعاهم إلى كلمة واحدة، وإنما هم لفوا وداروا وأجرموا، وقالوا: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] محمد يقول شيئاً ويريد غيره، يريد السلطة، ويريد الملك: {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص:6] وكما قال فرعون من قبل عن موسى وهارون: {وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} [يونس:78] إنما رفع النبي صلى الله عليه وسلم كلمة واحدة، كلمة التوحيد، وكان يبحث عمن يقبلها، وحتى أولئك الذين عرضها عليهم ما عرضها ملفوفة بطابع الدنيا، ما قال لهم: اقبلوا الدين وسوف تنصرون وتصبحون سادة وملوكاًً وأعزة! لا، وإنما قال لهم: اقبلوا الدين ولكم الجنة، بايعهم على هذا فقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.

وإنما جاء الوعد وعداً عاماً لا يخص أولئك الأفراد الذين بايعوا، ولا يخص تلك الطائفة بعينها وذاتها، وقد مات من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من مات، ولم يأخذ من أجره شيئاً كما مات مصعب بن عمير لم يأخذ من أجره شيئاً، حتى إنهم لم يجدوا ما يكفنونه، إلا قميصاً إذا وضعوه على رأسه ظهرت رجلاه، وإذا وضعوه على رجليه ظهر رأسه، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يغطوا رأسه وأن يضعوا على رجليه من الإذخر!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015