تاسعاً: مشهد من المدينة دخل النبي صلى الله عليه وسلم وفرح الناس به رجالاً ونساء، كباراً وصغاراً، وطفقوا يتحدثون في البيوت وفي الشوارع: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء من فالمدينة كل شيء، ولما مات النبي صلى الله عليه وآله وسلم أظلم من المدينة كل شيء.
نعم قدم النبي صلى الله عليه وسلم فتسامع الناس به، وخرج عبد الله بن سلام وكان يهودياً فنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضمن الناس فقال: {فلما استثبت في وجهه عرفت أنه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: يا أيها الناس! أطعموا الطعام وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} .
هاهنا عبر، أولاً: (عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب) ما أحوجنا إلى الداعية الذي يتفق ظاهره وباطنه، وسره وعلانيته، ويصدق الله تعالى في قوله وفعله، فإذا رآه الناس أشاروا بأيديهم، وعرفوا وقرءوا بعيونهم أن وجه هذا الإنسان ليس بوجه كذاب، ليس من أهل الدنيا، وليس من أهل العاجل، وليس من المزورين وليس من الممثلين، وإنما هو صاحب كلمة وصاحب دعوة يتحرك بها قلبه فيفيض بها لسانه، وها هنا تكون الاستجابة ويكون القبول.
ثانياً: الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس كلهم، المدينة فيها اليهود ثلاث قبائل، ولابد من دعوتهم، فيدعوهم النبي صلى الله عليه وسلم ويستجيب منهم من يستجيب ويرفض أكثرهم، ولكن كان عبد الله بن سلام ممن أسلم، وذكره الله تعالى في كتابه أنه الرجل من بني إسرائيل الذي آمن وشهد على مثله، كما في بعض الروايات وأقوال كثيرٍ من المفسرين، وأسلم غيره من اليهود أيضاً، وكفر أكثرهم، لكن منهم من أسلم.
فنأخذ من ذلك أن المجموعات التي توجد في أوساط المسلمين، يجب توجيه الدعوة إليهم، يوجد النصارى، ويوجد الهندوس، ويوجد اليهود، ويوجد أصناف الكفار، هذا من جهة؛ كما أنه يوجد من بين المسلمين أنفسهم أهل البدع، يوجد الشيعة الرافضة، ويوجد الإسماعيلية، ويوجد الصوفية، وتوجد طوائف كثيرة، ومن المؤسف جداً أنه يشيع في بعض الأوساط أنه لا فائدة في هؤلاء، لا يسلمون فيدخلوا في الدين، وكذلك أهل البدع لا يعودون إلى السنة.
وهذه في الواقع إشاعة خطيرة، لأنها تخدم أولئك القوم أكثر مما تخدم مذهب الحق، بل يجب أن يكون عند صاحب مذهب الحق ثقة بما يحمل، وما يدعو إليه، وأنه لا أحد يجوز أن تحجب عنه الدعوة، بل يجب أن يدعى كل أحد بقدر المستطاع، فإن استجاب فالحمد لله، وإن لم يستجب فقد قامت الحجة عليه.
يجب أن تدعوا هؤلاء جميعاً خاصة أولئك الذين يملكون اللغة، ويستطيعون أن يخاطبوهم، وخاصة أيضاً أولئك الذين يعايشونهم في أعمالهم، ومقار وظائفهم، وصناعتهم، وأسواقهم، وغير ذلك، وأيضاً تلك المراكز والمكاتب التي تحمل على عاتقها دعوة الجاليات إلى الإسلام.
أما أهل البدع بين المسلمين، فيجب أيضاً توجيه الدعوة إليهم، ويجب أن تكون دعوة بصبر، وسعة بال، وطول نفس، وهدوء في الكلمة، وصبر عليهم، لأن هؤلاء القوم قد يكونون تشبعوا من معلومات خاطئة عن الإسلام والمسلمين، وامتلأت عقولهم بمفاهيم مضللة، وسلطت عليهم أجهزة إعلامية كثيرة، فأنت بحاجة إلى أن تنقض هذا شيئاً فشيئاً، ولو أنك اتخذت موقفاً صارماً من البداية، لكنت بذلك تصدق ما قاله عنك الأعداء، وتؤكد لهؤلاء أن من الضروري أن يبتعدوا عن الإسلام، وألا يقبلوه بحال، إذاً فليكن تسللك إلى قلوبهم بصبر ولطف، وأدب، وتواضع، وطول نفس، ومالا يتم اليوم يمكن أن يتم غداً، وإذا لم تستطع أن تنقلهم من دينهم إلى الإسلام، فلا أقل من أن تشككهم في دينهم، وقد يأتي يومٌ لداعية آخر فيحقق ما عجزت عنه أنت، وإذا لم يكن هذا فلا أقل من أن تقلل حماسهم فيضعف ويفتر، ويتحولوا من دعاة متحمسين إلى أفراد عاديين، وهذا أيضاً هو مكسب نسبي ينبغي أن تراعيه.
إنه ليس هناك خدمة لأهل تلك الأديان أعظم من أن يشيع بين المسلمين وطلبة العلم والدعاة أن هذه الفئة من الكفار، أو أن هذه الفئة من المبتدعة، لا يقبلون الحق، ولا يذعنون له، إذاً لا أمل في دعوتهم.
وقفة ثالثة مع حديث عبد الله بن سلام، وهي أن مبادئ الإسلام العظيمة هي مبادئ شمولية، وكما هي شمولية في المدعويين هي أيضاً شمولية في حقيقة الدعوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هاجر ليقيم دولة، وهاجر ليرفع راية الجهاد في سبيل الله عز وجل، وهاجر ليجمع كلمة المسلمين على الحق، وجعل المدينة منطلقاً وعاصمة للإسلام، وفي الوقت نفسه هذا لم يلهه أو ينسه صلى الله عليه وسلم وحاشاه في أول كلمة أو خطبة عن أن يأمر الناس بإطعام الطعام، والإحسان إلى الآخرين، وصلة الأرحام، والقيام بحقوق الأقارب والجيران، وغيرهم والصلاة بالليل والناس نيام؛ لأن الصلاة صلة بين العبد وبين الله جل وتعالى.
فينبغي أن نقدم للناس دعوة الإسلام بشمولها، بكمالها، ومن الخطورة بمكان أن نقدم للناس جزءاً من الدين على أنه هو الدين كله، فنقدم لهم مثلاً برنامجاً سياسياً وإسلامياً على أن هذا هو الإسلام كله، وهذا خطأ، أو نقدم لهم برنامجاً أخلاقياً فنحدثهم عن صلة الرحم، أو حقوق الجار، أو بر الوالدين، ونصور لهم أن هذا هو الدين كله، ونسلخ من الإسلام تلك المعاني العظيمة الكلية الشمولية، لسبب أو لآخر.
إن دين الله عز وجل كل لا يتجزأ، ولا يقوم به إلا من أحاطه من جميع جوانبه، فينبغي للدعاة إلى الله تعالى أن يقدموا الدين للناس كاملاً غير منقوص، وهذا لا يمنع بحال أن تتخصص فئة منهم في شيء، ويتخصص غيرهم في غيره.