رواية الإمام البخاري لحادث الهجرة

وكل روايات السيرة النبوية، وأحداثها، وقصصها، لا تعدو أن تكون تفصيلاً لما أجمل في القرآن الكريم، ولهذا فلا حرج علي وأنا أحدثكم اليوم خبر ذلك الموكب الكريم العظيم، لنقف ملياً عند دروسه، وعبره، وأحداثه، فلنستمع إلى رواية واحدة فقط -رواية الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في صحيحه لهذا الحدث: {عن عائشة رضي الله عنها قالت أم المؤمنين: لم أعقل أبوي قط إلا وهما يدينان الدين، ولم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار بكرة، وعشياً فلما ابتلى المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً نحو أرض الحبشة حتى بلغ برك الغماد، فلقيه ابن الدغنة، وهو سيد القارة، فقال له: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي، فأريد أن أسيح في أرض الله، وأعبد ربي عز وجل، قال له ابن الدغنة: يا أبا بكر إن مثلك لا يَخرُج ولا يُخرَج، إنك تكسب المعدوم، وتصل الرحم، وتحمل الكل، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق -رجل بهذه الصفات لا يخرج من بلده، ولا ينبغي أن يخرج، وأمة تلفظ أمثال هؤلاء الكبراء، الفضلاء، أهل التقوى، والعلم، والمجد، والإيثار، أمة قد تودِّع منها، ولهذا أدرك هذا الجاهلي بحسه أن مثل ذلك غلط، لا يجوز أن يكون، فمثلك يا أبا بكر لا يَخرُج ولا يُخرَج- ارجع واعبد ربك ببلدك، وأنا لك جار، أحميك ممن أراد بك سوءاً، فرجع أبو بكر رضي الله عنه وارتحل معه ابن الدغنة، فطاف في أشراف قريش وفي نواديهم يقول لهم: إن أبا بكر لا يخرج! أتخرجون رجلا يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف، ويعين على نوائب الحق؟! أنا له جار، فلم تكذب قريش بجواره، وقالوا له: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره -فليصل في بيته- ويقرأ ما شاء من القرآن، ولكن لا يؤذينا بذلك، ولا يستعلن به، فإنا نخاف أن يفتن نساءنا وأبناءنا} .

لقد رجعت قريش خطوة واحدة إلى الوراء، وقالوا: نقبل الآن مضطرين أن يسلم أبو بكر، وأن يظل مقيماً في قريش، ولكننا لا نريده أن يدعو إلى دينه، ولا أن يستعلن به، والخوف ما هو؟ الفتنة (نخشى أن يفتن نساءنا، وأبناءنا) فقال ذلك ابن الدغنة لـ أبي بكر رضى الله عنه {فلبث أبو بكر مستخفياً يعبد ربه عز وجل في داره، ولا يستعلن بصلاته، ولا يقرأ في غير بيته، ثم بدا لـ أبي بكر فابتنى مسجداً في فناء الدار بالساحة المحيطة بمنزله، وكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن ويجهر به، فينقذف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، وهم يعجبون منه، وينظرون إليه، وكان أبو بكر رضي الله عنه رجلاً بكاءً لا يملك عينه إذا قرأ القرآن} كأنما كانت قريش تقرأ الذي سيقع ويحدث فعلاً، كان الناس ينقذفون إلى أبي بكر، لأن لهذا القرآن سلطاناً على القلوب، ولأن لدعوة الحق سلطاناً على النفوس، والفطرة تستجيب لها، وتتجاوب معها، فحصل ما خافوا وخشوا، ولذلك أفزعهم هذا: {فذهبوا إلى ابن الدغنة، وقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر بجوارك على أن يعبد ربه في داره، فقد تجاوز ذلك، وابتنى مسجداً بفناء داره، فأعلن الصلاة والقراءة فيه، وإنا قد خشينا على نسائنا وأبنائنا فانهه عن ذلك، فإن أحب أن يعبد ربه في داره فعل، وإن أبى إلا أن يعلن بذلك، فاسأله أن يرد إليك ذمتك، فإنا كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرين لـ أبي بكر الاستعلان، قالت عائشة رضي الله عنها: فأتى ابن الدغنة إلى أبي بكر، فقال: لقد علمت الذي عاقدت لك عليه -أنت تعرف يا أبا بكر ما هو العقد والعهد الذي بيني وبينك- فإما أن تقتصر على ذلك، وإما أن ترجع إليَّ ذمتي، فقال له: أبو بكر -رضى الله عنه-: إني أرد إليك جوارك، وأرضى بجوار ربي عز وجل والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ كان مقيماً بمكة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لأصحابه: إني رأيت دار هجرتكم -وقد يكون رآها في المنام، عليه الصلاة والسلام، أو في غير ذلك -هي أرض ذات نخل بين لا بتين} أي: حرتين وهي الحجارة السود التي تحيط بالمدينة فهاجر من هاجر قبل المدينة، ورجع عامة الصحابة الذين كانوا هاجروا إلى الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر -رضي الله تعالى عنه- للرحيل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: {على رسلك -انتظر- فإني أرجو أن يؤذن لي، فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟ قال: نعم.

قال: فحبس أبو بكر نفسه على ذلك، حتى يصحب النبي صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السمر -وهو الخبط- وهو علف معروف للمواشي، أربعة أشهر وهو يعلفها} .

قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: {فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لـ أبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعاً في ساعة لم يكن يأتيهم فيها، -إذاً في الأمر جديد- فقال أبو بكر: فداك أبي وأمي يا رسول الله! ما الذي جاء بك في هذه الساعة؟ -أي: ما جاء بك إلا أمر- قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي بكر: أخرج مَن عندك -مَن عنده من زوجته وبناته وأولاده- فقال له: إنما هم أهلك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي، قال: فإني قد أذن لي بالهجرة، قال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله -أتأذن لي أن أصحبك، وأرافقك في هذا المسير قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} .

وهنا يقول ابن إسحاق: قالت عائشة رضي الله عنها: {فوالله ما علمت أن أحداً كان يبكي من غلبة الفرح إلا يومئذٍ} فإن أبا بكر رضي الله عنه بكى من غلبة الفرح عليه بصحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأنه سوف يصحبه في رحلة المخاطر حيث العالم كله يحاربهم، ويرميهم عن قوس واحدة، وحيث تضع قريش جائزة ضخمة لمن يأتي برءوسهم، أو يأتي بهم أحياءً أو أمواتاً.

{الصحبة يا رسول الله؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.

قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله! هذه إحدى راحلتي، قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.

آخذها بالثمن، قالت عائشة: فجهزناهما أحسن جهاز، وصنعنا لهم سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت بـ ذات النطاقين، ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر بغار في جبل ثور، فكانوا فيه ثلاثة أيام يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر، وهو غلام شاب ثقف -أي: ذكي حاذق فطن- فيدلج من عندهما بالليل في السحر آخر الليل، فيصبح مع قريش بمكة، كما لو كان قد بات بمكة ليلته كلها، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا رجع وأخبرهما به، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر غنمهما، ثم يريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء، فيبيتان في رسل -وهو اللبن- ويخبرهما عبد الله بن أبي بكر بالخبر، وتمشي الغنم على جرته فتمحوها، ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث، واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، رجلاً من بني الديل وهو عبد الله بن أريقط وكان هادياً، خريتاً -أي: بصيراً بالطريق- وقد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وكان على دين كفار قريش، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وأبا بكر قد أمناه، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث، فلما أصبحوا الليلة الثالثة، انطلق معهما عامر هو والدليل فأخذ بهم طريق الساحل} حتى وصلوا إلى المدينة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015