أحياناً نضع المسئولية على الحكام، أو على العلماء والدعاة، أو طبقة معينة من المجتمع، وأنا أقول مسئولية الحكام ليست كمسئولية آحاد الناس، ومسئولية العلماء ليست كمسئولية العامة، ومسئولية الدعاة ليست كمسئولية غيرهم، ولكن ينبغي -مع ذلك- أن نُدرك أن مسئولية الفرد العادي كبيرة، وأنه يستطيع أن يفعل الكثير، سواءً في تعزيز من يريد الإصلاح، فيقف إلى جانب العالم والداعية يؤازره ويشد على يده، ويقويه ويساعده في تحقيق مهمته، أو يقف ضد من يريد الإفساد، ونحن نعلم أن كثيراً من الخُطط تنهار بسبب أن الشعوب لا تقبل بها؛ فتضمحل وتزول، وأن كثيراً من الخطط تنجح بسبب تقبل الناس لها ودعوتهم إليها وقناعتهم بها.
إذاً قبول الناس بشيء أو رفضهم له من أعظم أسباب نجاحه أو فشله، فلا ينبغي أن نلقي باللائمة على جهة معينة أو فرد معين، لاحاكماً ولا عالماً ولا داعية، وإن كنا لا نبرئ هؤلاء أبداً من المسئولية، بل نقول: إن مسئوليتهم أكبر وأعظم من مسئولية أفراد الناس، لكن هذا لا يعني أنهم هم المسئولون فقط، وأن بقية الناس لا شأن لهم، بل هم -كما يُقال- أصفار على الشمال.
كلا وألف كلا! كل واحدٍ منا هو -على الأقل- واحد صحيح، وأنت تعرف لو لم يوجد الناس ماذا يصنع العالم؟ من يُعلِّمُ إذا لم يجد تلاميذ يأخذون عنه؟ والداعية إذا لم يجد المدعوين من يدعو؟ ومن يخاطب؟ وهكذا الحاكم إذا لم توجد الرعية من يحكم؟ ولهذا يذكر في القصص -كما سبق أن ذكرنا- أنه لما أراد العز بن عبد السلام أن يخرج من مصر مغضباً ومغاضباً، لما خرج على حماره المتواضع ومعه زوجته وأثاثه البسيط، خرج شعب مصر كلهم وراءه، فذهب من ذهب إلى السلطان المملوكي، وقال له: لقد انجفل الناس، وخرجوا وراء العز بن عبد السلام.
فدعوه واسترضوه حتى أقنعوه بالبقاء وحققوا له ما يريد.
أنت تجد في كتب الأدب النقد للناس، وبعضهم يقول: ذهب الناس وبقي النسناس، وفي كتاب الإمام الخطابي العزلة، وفي كتاب العقد الفريد وفي غيرها، تجد كلاماً كثيراً في ذم الناس، ونقدهم وعيبهم وشتمهم وسبهم، لكن من هم الناس؟ هذا المؤلف للكتاب أليس هو من الناس؟ هو واحد منهم، فالمبالغة في ذم الناس وعيبهم أمرٌ لا يسوغ، خاصةً وأن الإنسان إذا تكلم فيهم بهذه الطريقة كأنه يُخرج نفسه من بينهم، ولماذا لا تتصور نفسك واحداً منهم؟ أم أن الأمر في حقنا أننا أصبحنا الآن كل همنا أن نتخلص من المسئولية، حتى شاع في المثل أن بعضنا يقول: المشاكل التي نعيشها اليوم، هي من صنع الجيل السابق، وسوف يقوم بحلها الجيل القادم، أما نحن فمجرد متفرجين.
أيضاً هناك بعض الإخوة ينتظرون مفاجآت قدرية، أو مفاجآت يصنعها الآخرون لنا، فالبعض لا يصنع شيئاً، ولا يظن أن تتغير أوضاع المسلمين لماذا؟ قال: لا تتغير هذه الأوضاع إلاَّ أن يأتي الله تعالى بعيسى أو بالمهدي عليهما السلام.
ونحن نؤمن عقيدةً بأن المهدي سوف يخرج في آخر الزمان، كما جاء ذلك في أحاديث كثيرة تزيد على الثلاثين عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الأحاديث الواردة في أمر المهدي بلغت مبلغ التواتر، كما ذكر ذلك غير واحد.
كذلك نؤمن بأن عيسى عليه الصلاة والسلام سوف ينزل في آخر الزمان، ويصلي مع المسلمين، ويشاركهم في حروبهم ومعاركهم، وهذا أمرٌ أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، بل جاء به القرآن الكريم قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف:61] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} [النساء:159] .
وأخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة، ساق طائفة منها الحافظ ابن كثير في تفسيره، فنحن نؤمن بهذا ونؤمن بذاك، لكننا نؤمن -أيضاً- وندين الله بأن الله تعالى لم يتعبدنا أبداً أن نقعد ونترك العمل والجهاد في انتظار مجيء المهدي أو مجيء عيسى، ولو أن المهدي أو عيسى جاء إلى أمة محطمة مهزومة ما استطاع أن يصنع شيئاً، ولكن إرادة الله تعالى وحكمته أن يأتي المهدي ويأتي عيسى إلى أمةٍ قد تخلصت من العجز، والضعف، والهوان، والجبن، وجاهدت في سبيل الله وحققت بعض الانتصارات، فيقودونها في معركتها إلى مزيد من العز ومزيد من النصر ومزيدٍ من التمكين.
ولو أن قائداً عظيماً ولد اليوم بيننا، أظن أنه لا يستطيع أن يصنع شيئاً بمثل هذه الرمم الهامدة الجامدة، التي أصبحت عاجزةً عن أن تصنع شيئاً لنفسها أو دينها أو كرامتها أو أعراضها.
والبعض ينتظر أن أمم الكفر تعلنها حرباً ضروساً ضاريةً ضد المسلمين لتستثير مشاعر المسلمين العادية، ونحن نقول: نعم، الحروب التي توجه اليوم ضد الإسلام والمسلمين سوف تُساهم في تعميق الوعي، وتعميق الانتماء لهذا الدين، وجمع كلمة المسلمين على أمر سواء، ولا شك في ذلك، لكن لا أعتقد أنه يجوز أو يسوغ لنا شرعاً أن ننتظر أن يهجم علينا العدو حتى نوحد صفنا، وحتى نقوم بواجبنا، كلاَّ! فإن العدو استطاع أن يبلغ منا مبلغاً عظيماً اليوم؛ لأننا لسنا على مستوى المواجهة، فعلينا أن نتقي الله تعالى، وأن ندرك أنه يكفينا ما نواجهه الآن من التحديات على كافة المستويات، لنقوم بإعداد أنفسنا إعداداً جيداً لمواجهة الواقع.