العذر الثاني: أن يبلغه ولكن ينساه، وهذا ما سأتحدث عنه الآن -إن شاء الله- وبقية الأعذار تأتي إن وفق الله وأعان في الأيام القادمة.
فما يتعلق بالنسيان فهو أمر جبلي طبيعي في البشر، لا ينفك منه إنسان مهما كانت منزلته، ومهما كان علمه وحفظه، والنسيان على نوعين: النوع الأول: نسيان مطلق كامل، بمعنى أن ينسى الإنسان الشيء فيذكر به فلا يذكره، وهذا غير ممكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله عز وجل فيما يتعلق بالرسالة والتبليغ والوحي، إلا أن يكون في مجال النسخ، أن ينسخ شيء فيحتمل أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6-7] وكما في قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة:106] أما أن ينسى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور التشريع والوحي فيذكر به ولا يذكره، فهذا غير ممكن في شأن النصوص المحكمة، ولكنه ممكن في حق غيره من البشر أياً كانوا من الصحابة فمن دونهم.
أما النوع الثاني: فهو أن ينسى الإنسان شيئاً فإذا ذكر به تذكر، وهذا جائز حتى في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ في المسجد في الليل، فقال: رحم الله فلاناً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دلت رواية البخاري على أن فلاناً هذا هو عباد، يعني عباد بن بشر الصحابي الجليل المشهور، وفي رواية أنه عبد الله بن زيد، وكونه عباد أقوى لأنها في البخاري، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم نسي آية فلما سمع عباداً يقرؤها تذكرها صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعده من الصحابة والتابعين وسائر علماء الإسلام يعرض لهم من النسيان من النوع الأول والنوع الثاني، وسأذكر الآن بعض الأمثلة التي فيها ذكر نسيان من بعض الصحابة أو غيرهم، سواء ذُكِّروا فتذكروا أم ذكروا فلم يتذكروا، من غير تمييز بين هذا وذاك.
فمن الروايات الصحيحة المتفق عليها عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر -رجل مسافر تصيبه الجنابة وليس معه ماء كيف يصنع؟! - فقال عمر رضي الله عنه: لا يصلي حتى يغتسل، فقال له عمار بن ياسر رضي الله عنه: أتذكر يا أمير المؤمنين يوم كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا، فأما أنا فتمرغت بالتراب تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، وضرب بكفيه الأرض، لوجهه ويديه، فقال عمر: اتق الله يا عمار، قال عمار: إن شئت لم أحدث به يا أمير المؤمنين، قال عمر رضي الله عنه: بل نوليك من ذلك ما توليت، يعني أذن له أن يحدث به ويتحمل مسئولية هذا الخبر الذي نسيه عمر رضي الله عنه ولم يذكره.
وأبلغ من ذلك ما ورد عند أبي يعلى وسعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال: أيها الناس، لا تغالوا في صُدق النساء، فإني لا أعلم رجلاً زاد في الصداق على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته، وكان مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ثنتي عشرة أوقية ونشاً ونصفاً، فقامت امرأة وقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ ثم تلت قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً} [النساء:20] فسكت عمر رضي الله عنه، ورجع إلى قولها، وهذا الإسناد فيه مجانب بن سعيد وفيه لين، ولكن ورد الحديث من طرق عديدة في مصنف عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي، وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب، وفي غيرها من الكتب، فالظاهر أن الرواية قوية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور وقال: بسند جيد، وفي بعضها أن عمر لما ذكرت المرأة الآية، قال: أخطأ رجل وأصابت امرأة، أو أخطأ عمر وأصابت امرأة، ورجع على نفسه باللوم: أن كل الناس أفقه منك يا عمر، وهذا دأب المؤمن يزدري نفسه ويهضمها ولا يرفعها فوق قدرها، فها أنت ترى أن عمر رضي الله عنه نسي هذه الآية وما تدل عليه من أنه يجوز أن يكون المهر قنطاراً {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} [النساء:20] ثم ذكرته هذه المرأة فتذكر.
بل لماذا نذهب بعيداً ونحن نجد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطبقوا على نسيان مفهوم قوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144] بعد أن دهشوا لموته صلى الله عليه وسلم، حتى قام عمر وهو من أقوى الناس وأثبتهم وأجلدهم، يقول: إن قوماً زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ويصفهم بالنفاق، وأنه سوف يأتي ويقطع رقابهم، فلما صعد أبو بكر وتلى هذه الآية تناقلها الناس حتى كأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وصارت تتلى في كل بيت كأنها نزلت الساعة.
ومما يذكر من نسيان بعض الصحابة ما رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما أن الزبير رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: {هل تحب علياً؟ قال: وما لي لا أحبه يا رسول الله، وهو ابن عمي وابن خالي وأخي في ديني، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: والله لتقاتلنه وأنت له ظالم} فلما كانت يوم الجمل والتقى الزبير وعلي قال علي للزبير: أما تذكر يوم قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا؟ فقال الزبير: بلى ولكني نسيت، ثم لوى عنق راحلته وشق الصفوف وخرج من المعركة، وذهب حتى نزل في وادٍ يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمر بن جرموز فقتله غيلة، واحتز رأسه -والله حسيبه- ثم جاء برأسه إلى علي بن أبي طالب واستأذن عليه فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بشر قاتل ابن صفية بالنار} يعني قاتل الزبير، والمقصود برواية البيهقي والحاكم وغيرهما قوله صلى الله عليه وسلم للزبير: {إنك تقاتله وأنت له ظالم} فلما ذكره بها علي ٌ تذكر وعمل بمضمونها، وهكذا من بعد الصحابة من أهل العلم كانوا كثيراً ما يعرض لهم النسيان.
ولذلك صنف أهل العلم كتباً خاصة بهذا الباب، فصنف الإمام الدارقطني كتاباً أو جزءاً فيمن حدث ونسي، ثم تبعه على ذلك الإمام الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المشهور بـ الخطيب البغدادي، فصنف جزءاً فيمن حدث ونسي، وتبعهم السيوطي فلخص كتاب الخطيب البغدادي في جزءٍٍ سماه تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي، وذكر فيه ما يربوا على ثلاثين حالة حدث فيها أهل العلم الثقات بأحاديث ثم نسوها.
ومن الطريف أنهم ينسونها أحياناً، فيقول من روى عنه إنك حدثتني بهذا، فيبدأ الشيخ يروي عن فلان أنني حدثته عن فلان، ومن ذلك ما رواه سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل} والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن الحديث فلم يعرفه.
ومن ذلك أيضاً ما رواه ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} والحديث أيضاً رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال العلماء: فنسي سهيل بن أبي صالح هذا الحديث، فكان يقول: حدثني ربيعة بن عبد الرحمن، -الذي أخذ عنه هذا الحديث- أنني حدثته عن أبي عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} وقد ذهب أكثر أهل العلماء من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين إلى أنه تقبل هذه الرواية وإن نسيها صاحبها ما دام الراوي عنه ثقة، وذهب بعض الأحناف إلى عدم قبولها، ولذلك ضعفوا الحديث الأول وأجازوا أو أجاز كثير منهم أن تنكح المرأة البالغة العاقلة نفسها، ولكن الصحيح أنه يقبل إذا كان الراوي ثقة إذا كان الذي أخذ عن هذا الرجل الذي نسي ثقة.
والمقصود أن النسيان يعرض لابن آدم، وقد يتذكر وقد لا يتذكر، فقد ينسى إمام من الأئمة أو عالم من العلماء آية قرآنية أو حديثاً نبوياً فيقول بخلاف ما يدل عليه، فإن ذكر وكان الحديث ظاهراً أو كان الدليل آية قرآنية تذكر ورجع كما رأيتم، وقد يذكر فلا يتذكر، ويبقى على نسيانه سواء لعلة ظهرت له كما حصل لبعضهم، أو لأنه شرد من ذهنه هذا الحديث ولم يستطع أ