هناك جانب آخر نكمله باختصار وهو أن السنة أو الحديث قد يصل إلى هذا العالم، لكن لا يعتقد أنه صحيح، يصل إليه مع اعتقاد ضعفه، بمعنى أنه لا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قاله، إما لأنه لم يسمع به أصلاً أو لأنه سمع به لكن من وجه لا يثبت عنده، ومن المعلوم لديكم أن شروط الحديث الصحيح خمسة: الشرط الأول: عدالة الراوي.
والشرط الثاني: ضبطه.
والشرط الثالث: اتصال الإسناد.
والشرط الرابع: السلامة من الشذوذ.
والشرط الخامس: السلامة من العلة القادحة.
فهذه خمسة شروط يتوقف عليها تصحيح الحديث، بل ومن العلماء من يضيف شروطاً أخرى ككون الراوي فقيهاً وكونه عالماً، وكونه مشهوراً بحمل العلم، وما أشبه ذلك، وكل شرط من هذه الشروط أهل ومحل لأن يختلف فيه أهل العلم، فإن ما يوجد -مثلاً- بين علماء الجرح والتعديل من الاتفاق والاختلاف، مثل ما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، فهم يختلفون في توثيق الراوي، ويختلفون في لقائه لشيخه، ويختلفون في العلل، ويختلفون في الاتصال والانقطاع، ويختلفون في الوصل والإرسال، ويختلفون في الشذوذ وعدمه، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، ولم أر داعياً لذكر أمثلة لكثرتها أولاً، ولأنه يمر خلال هذه الدروس أمثلة كثيرة جداً، ولو أردنا أن نمثل بأمثلة مما سبق، لوجدنا أن هناك مما اختلف فيه العلماء بسبب اختلافهم في توثيق الراوي أو تضعيفه، وهناك حديث اختلفوا فيه لاختلافهم في اتصال إسناده أو انقطاعه، وهناك ما اختلفوا فيه لاختلافهم في شذوذه أو عدمه، أو اختلافهم في وجود علة فيه من اضطراب، أو إرسال خفي أو نحو ذلك.
فإذا كانت هذه الاختلافات كلها موجودة، ورأيت إماماً ترك العمل بحديث ما، ولو كان صحيحاً في ما اطلعت عليه أنت، فتذكر أن هذا العالم المجتهد قد يرى هذا الحديث ضعيفاً، فحينئذ لا يلزمه أن يقول بموجبه، ولا أن يعمل به، بل يلزمه ألا يعمل به إن وجد أولى منه، من حديث آخر أو ظاهر آية أو قياس جلي أو ما أشبه ذلك مما قد يرجحه بعضهم على الحديث الضعيف، هذا الجانب الأول أو العذر الأول للعلماء في ترك العمل بسنة من السنن، وهو ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه السنة أو هذا الحديث، إما لأنه لم يبلغه أصلاً وإما أنه لم يصح عنده من وجه صحيح، والله أعلم.