عدم بلوغ جميع الأحاديث لأي إنسان

وسنبدأ الآن بالسبب الأول، وهو: ألا يبلغه الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يكون في المجلس وعنده بعض أصحابه، فيتكلم بالحكم أو الحديث أو تحصل الواقعة، فينقلها هؤلاء الصحابة لغيرهم ولمن بعدهم من التابعين، وينقلها التابعون لتابعيهم حتى تصل إلينا، ثم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم في مجلس آخر، عنده قوم آخرون من الصحابة ما حضروا المشهد الأول فيتكلم بكلام آخر، وتحصل واقعة أخرى فينقلها هؤلاء الحضور إلى غيرهم وإلى من بعدهم حتى تصل إلى الأمة، فنجزم إجمالاً بأن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم التي يحتاجها المسلمون في الشرع والأحكام والحلال والحرام محفوظة مضبوطة بالجملة، لكن لا يلزم أن تكون عند كل واحد من الأئمة، بل من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً، كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه الفذ "رفع الملام عن الأئمة الأعلام": من اعتقد أن إماماً من الأئمة قد أحاط بالسنة كلها فقد أخطأ خطأً شنيعاً؛ لأن دواوين السنة متفرقة، وقلما تجتمع عند شخص بعينه، وحتى لو افترض اجتماعها عنده، لا يعني أنه أحاط بها، بل قد يكون فيها ما لا يعلم هذا الإمام.

ولنلق نظرة سريعة على أعلم الناس وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أعلم الصحابة وهم الخلفاء الأربعة، فبالنظر سنجد أن هؤلاء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم قد فاتهم شيء من السنة، كان عند غيرهم ممن هو أقل منهم علماً وأقل ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم.

فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في الصحيح-: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر فكانا ملازمين له صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وبالذات أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك جاءت إليه الجدة تسأله نصيبها من الميراث وهي أم الأم وفي رواية أم الأب، فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لك شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس.

فصعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر، وسأل الصحابة إن كان أحد منهم يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في ميراث الجدة شيئاً، فقام المغيرة بن شعبة فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد على ذلك، فأعطاها أبو بكر السدس، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والإمام أحمد، وهو من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر رضي الله عنه، وقبيصة من التابعين لم يلق أبا بكر رضي الله عنه، فروايته عنه مرسلة، فالحديث على هذا مرسل ولكنه يعتضد بالإجماع على الأخذ به، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن الصحابة والتابعين اتفقوا على أن نصيب الجدة السدس، فهذا أبو بكر رضي الله عنه خفي عليه ميراث الجدة حتى أخبره من هو أقل منه علماً وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة، وكذلك وردت هذه السنة عن عمران بن حصين رضي الله عنه.

ثم انظر إلى الخليفة الثاني وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد طالت مدة خلافته فكثرت فتاواه رضي الله عنه، وهو من فقهاء الصحابة المعدودين ولذلك نقل عنه أشياء كثيرة حفيت عليه فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أشهرها ما في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر بن الخطاب في بيته، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فكان عمر مشغولاً ببعض شأنه وربما كان يريد أن يؤدب أبا موسى لأن أبا موسى كان والياً على الكوفة وكان عمر يريد أن يبين له أن حجز الناس في الأبواب وحجبهم أمر ثقيل وشاق على النفوس، فاستأذن أبو موسى مرة ثانية، وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، فسكت عمر، فاستأذن مرة ثالثة، وقال: السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فانتهى شغل عمر وانتبه، وقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: بلى، قال: علي به، فنظروا فإذا هو قد ذهب، فجاءوا به إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال: ألم أكن أسمع صوتك تستأذن بالباب؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت أو لأودعنك، فـ عمر رضي الله عنه كان يشدد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتثبت الناس في التنقل والرواية، لذلك ضرب المثل بـ أبي موسى؛ لأنه يعرف أن أبا موسى لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أراد أن ينبه الناس إلى أنه هكذا سنفعل، فمن كان غير متثبت فعليه أن لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أبو موسى من عنده مذعوراً فزعاً، فمر على نفر من الأنصار جلوساً، فقال لهم: هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الاستئذان ثلاثاً، فتضاحك القوم، فقال لهم: يأتيكم أخوكم فزعاً مذعوراً فتتضاحكوا، فسألوه ما شأنه فأخبرهم، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.

وفي صحيح مسلم أن أبياً جلس مع أبي موسى عند المنبر فقال عمر لمن حوله: إن وجد أبو موسى أحداً يشهد له فستجدونه عند المنبر، وإن لم يجد فلن تجدوه، فلما أقبل عمر وجد أبا موسى وأبياً عند المنبر، فقال لـ أبي موسى أوجدت أحداً؟ قال: نعم، هذا أبي بن كعب، فقال: ما تقول يا أبا المنذر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ثم قال أبي بن كعب: يا ابن الخطاب لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما سمعت أمراً فأردت أن أتثبت.

فهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو في سعة علمه، وجلالة قدره، وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الأحاديث الصحاح، حتى أنه ذكر في الحديث الصحيح: {أنه رأى الناس وعليهم قمص، منهم من يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك، وعلى عمر بن الخطاب قميص يجره، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين} وفي الحديث الآخر، قال: {أوتيت بلبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر، قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم} فرجل بهذه المنزلة وبهذه المثابة، ومع ذلك يتعلم سنة الاستئذان ثلاثاً ممن هم دونه في العلم، كـ أبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، وأبي سعيد الخدري، ونحوهم.

وحادثة أخرى لـ عمر رضي الله عنه وهي أنه لما ذهب إلى الشام ونزل بسرف وهي بلدة على أطراف الجزيرة بحدود الشام، سمع بأن الطاعون قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم، فتحير في ذلك رضي الله عنه فجاء بالمهاجرين الأولين فاستشارهم، فأشاروا عليه برأي ولم يذكروا له سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحضر الأنصار واستشارهم فأشاروا عليه برأي، ثم أحضر مسلمة الفتح واستشارهم فأشاروا عليه برأي وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً في بعض شأنه، فلما جاء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: {إذا نزل الطاعون في أرض وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرضٍ؛ فلا تقدموا عليه} ففرح بذلك عمر وسر ورجع، فهذه السنة خفيت على عمر رضي الله عنه، بل وعلى جمهور المهاجرين وسائر المسلمين، وحفظها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولـ عمر قصص عديدة غير هذه.

فإذا انتقلت إلى الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وجدت أنه لم يعلم بأن المرأة المتوفى عنها تعتد في بيتها، حتى أخبرته بذلك الفريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد الخدري أخبرته بقصتها وأنه توفى عنها زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه.

فإذا انتقلت إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدته وابن عباس رضي الله عنهما يقولان: بأن المتوفى عنها وهي حامل تعتد أطول الأجلين من الحمل أو من أربعة أشهر وعشراً، مع أن في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة الأسلمية حين توفي عنها زوجها سعد بن خولة فوضعت فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خرجت من عدتها بذلك.

فإذا كان هذا هو الشأن في الصحابة بل في الخلفاء الراشدين؛ فغيرهم من العلماء من باب أولى أنه قد يفوت الواحد منهم شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يشترط أن يكون محيطاً بالسنة كلها، فإن هذا لو قيل لكان معناه أنه لا مجتهد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من الصحابة، لأن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015