العذر الرابع والأخير والذي نختم به هذا الدرس المتعلق بأعذار أهل العلم في الاختلاف وترك العمل بسنة من السنن، هو أن يعتقد أنه منسوخ، والنسخ كما عرفه الأصوليون: هو نسخ حكم شرعي بحكم آخر متراخٍ عنه، أي متأخر عنه، وعرفه بعضهم بأنه نسخ دليل حكم شرعي أو لفظي، يدخل فيه ما كان منسوخ اللفظ وما كان منسوخ التلاوة، والعلماء مختلفون جداً في النسخ، وإن كان أهل السنة قاطبة يثبتون النسخ إلا من شذ منهم، ولكنهم مختلفون جداً في تطبيقه، فمنهم من يتوسع في النسخ ويقول بنسخ أشياء كثيرة من القرآن والسنة، ومنهم من يضيق دائرة النسخ.
والكلام في النسخ وشروطه يطول؛ ولكن باختصار أقول: من المعلوم أنه لا ينبغي القول بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً؛ لأن النسخ يعني إبطال دليل شرعي ومفهومه، وأن يكون هذا الدليل -آية أو حديثاً في حكم ما- لم يرد في دلالته على هذا الشيء، فلا ينبغي أن يقال بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً، إضافة إلى شروط أخرى مثل أن يعلم المتقدم والمتأخر، وأن لا يمكن الجمع، أو أن يكون النسخ ثبت بالنص كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها} فهذا النسخ ثبت بالنص.
العلماء يختلفون في نسخ بعض النصوص لبعض، ولذلك قد يترتب على ذلك في كثير من الأحيان اختلافهم في حكم شرعي وأضرب لذلك مثلاً واحداً: ورد في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من مس ذكره فليتوضأ} والحديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري: هو أصح شيء في الباب، وصححه كثير من أهل العلم، والحديث دليل بظاهره على أن من مس ذكره وجب عليه الوضوء، لأن الأمر كما سبق يقتضي الوجوب إذا كان مجرداً عن القرائن فهذا حديث، يقابله حديث آخر وهو حديث طلق بن عدي في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: {هل يتوضأ من مس الذكر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا.
إنما هو بضعة منك} والحديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان وقال بعض أهل العلم: إنه أحسن من حديث بسرة، فمن العلماء من يقول بأن حديث بسرة الأول ناسخ لحديث طلق بن عدي، لماذا هو ناسخ؟ قالوا: لأنه متأخر، لأن بسرة تأخر إسلامها، بخلاف طلق بن عدي فهو متقدم الإسلام، واحتج بعضهم على تأخر حديث بسرة وأنه ناسخ فعلاً بما ذكره عدد من أهل العلم منهم ابن حزم: أن حديث بسرة ناقل عن الأصل، أما حديث طلق بن عدي فهو مبق عن الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، ومعنى هذا الكلام أنه إذا ورد في المسألة دليلان أحدهما موافق للأصل، لأنه لو لم يرد نص شرعي لمس الذكر، لو لم يرد دليل فما حكم مس الذكر؟ هل ينقض الوضوء؟ لا، لو لم يرد دليل أصلاً لما كان مس الذكر ناقضاً، فالآن عندنا حديثان أحدهما موافق لهذا الأصل وهو حديث طلق بن عدي لأنه قال: {إنما هو بضعة منك} فهذا الحديث مبقٍ لمس الذكر على الأصل أنه لا ينقض الوضوء، وعلله بعلة وهو أنه بضعة منك فهو كيدك أو رجلك أو أي جزء من جسمك.
والحديث الثاني حديث بسرة ناقل عن الأصل قال: {من مس ذكره فليتوضأ} فجاء بحكم جديد ما كان ليفهم إلا من النص الشرعي، وهذا مأخذ قوي فيما يظهر، لأنه يدل على تأخر حديث بسرة، أرأيتم هل يتوقع مثلاً أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مجلس من المجالس: من مس ذكره فليتوضأ، ثم يأتي رجل منهم فيقول يا رسول الله إني مسست ذكري فهل أتوضأ؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك، هل يتوقع هذا؟! هذا بعيد، هذا لا يتصور.
لكن العكس ممكن بأن يقول رجل: يا رسول الله، مسست ذكري فهل أتوضأ؟ قال له: لا تتوضأ؛ لأنه بضعة منك، فأجابه وأفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الوضوء بناء على الأصل، ولذلك علل بأنه بضعة منك فالأصل أنه لا يجب على الإنسان الوضوء من مس أي جزء من أجزاء جسمه إلا إذا ورد دليل، ثم تجدد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم وعلم بأن مس الذكر ينقض الوضوء فأخبر به أصحابه بأن من مس ذكره فعليه الوضوء، فهذا دليل على أن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن عدي متقدم، ولذلك رجح جمع من أهل العلم وجوب الوضوء من مس الذكر، وليس المجال الآن مجال تفصيل هذه المسألة، إنما هو الإشارة إلى أن النسخ والقول به سبب لاختلاف أهل العلم في كثير من المسائل، فقد تجد إنساناً مثلاً لا يتوضأ من مس الذكر فلا تعيبه حينئذ؛ لأنه اعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وقد تجد آخراً يتوضأ ويقول بوجوب الوضوء، فأيضاً لا تلومه لأنه يعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري إنه أصح حديث في الباب.
وينبغي ويجب أن لا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، وإن كان لا يمانع أن يكون هناك نقاش أو جدل بالتي هي أحسن ومفاوضة ومدارسة في هذه الأمور، هذا لا بأس به بل هو مطلوب، لأنه يساعد على الوصول إلى الحق، لكن الشيء المعيب هو أن تكون هذه الأشياء مدعاة إلى الخصومة والبغضاء والوقيعة والسب وما أشبه ذلك من الأمور التي حرمها الله ونهى عنها، فلا يجوز أن تقع بسبب هذه الأشياء التي هي معتمد فيها على أصول أو على أدلة شرعية.
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وبإذنه تعالى نبدأ بالجزء الثاني وهو المهم وهو المقصود أصلاً من هذه الدروس، وهو الكلام عن المثالب والمعايب التي يقع فيها طالب العلم وإنما المقصود بالإشارة إليها التنبيه على وجوب اجتنابها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.