العذر الثالث: أن يبلغه الحديث لكن يعتقد عدم دلالته على المقصود، وهذا أوسع الأبواب وأوسع الأعذار، أن يكون العالم يعتقد عدم دلالة الحديث على المقصود، وأن الشارع لا يريد ما فهمته من هذا النص واحتججت به عليه، وإنما يريد معنى آخر يعينه هذا العالم، وهذا الباب واسع جداً وأكثر كلام أهل العلم واعتذاراتهم تدخل فيه، ولأنه ليس المقصود من هذه الدروس وسوف نتحدث عنه فيما بعد في الكلام على آداب الطلاب ومثالبهم؛ فإنني أختصر الكلام في هذا الأمر، فأقول: إن عدم اعتقاد العالم أن هذا الحديث قصد به كذا وكذا يرجع إلى أحد أمرين: الأمر الأول: يرجع إلى مخالفة هذا العالم في قضية أصولية، ويُفهم هذا المعنى من خلال الأمثلة التالية: فقد يكون العالم يخالف أو له رأي في قضية من القضايا الأصولية، وهذه القضية أثرت في موقفه من هذا النص، فمثلاً العلماء يختلفون كثيراً في مسائل الأصول ومن ذلك اختلافهم في الدلالات، فقد اختلفوا في ما يسمى بمفهوم المخالفة، ودلالة مفهوم المخالفة هل يعمل بها، تصح أم لا، والمقصود بمفهوم المخالفة -كما سبق في مواضع عديدة- هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، يعني إذا نطق الشارع بتحريم أمرٍ وسماه أثبتنا للمسكوت عنه نقيض هذا الحكم، ودلالات مفهوم المخالفة كثيرة عند العلماء من أشهرها عند الأصوليين ما يسمونه بدلالة الحصر، فمثلاً في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد -في قصة طويلة- قال: {إنما التصفيق للنساء} إنما هي أداة حصر، دل هذا الحديث على أن التصفيق للنساء، ودلالته على هذا الحكم، هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ بالمنطوق، لأن نص الحديث إن التصفيق إنما هو للنساء، لكنه يدل بمفهومه على إثبات نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه، فبالنسبة للرجال هل يحسن أو يشرع لهم التصفيق؟ لا، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصر التصفيق للنساء في الصلاة؛ فدل على أنه يثبت للرجال حكم آخر، أو أن حكم المسكوت عنه وهو التصفيق للرجل له نقيض حكم المنطوق، وعُلِمَ من نصوص أخرى أن الرجل يسبح، بل من نفس الحديث لكن من غير هذا الموضع، فهذه دلالة الحصر، أو مفهوم الحصر.
كذلك من دلالات المفهوم التي يذكرها الأصوليون دلالة الصفة، فمثلاً: إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في السائمة زكاة} كما في كتاب عمر في الترمذي وعند أبي داود وفي الموطأ؛ أنه في السائمة من الغنم أنه إذا كانت من الأربعين إلى مائة وعشرين شاة، فكونه وصفها بأنها سائمة، هذا وصف دل بمنطوقه على أن السائمة التي ترعى من الغنم إذا بلغت هذا النصاب ففيها زكاة، لكن دل بمفهوم المخالفة لهذه الصفة على أن غير السائمة كالمعلفة ليس فيها زكاة، هذا يسمى مفهوم الصفة، ومن الأمثلة من القرآن الكريم الاستدلال بقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان:21] فإن البعض قد يحتج بأن وصفه خمر الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على العكس، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون النقيض هو النجاسة قد يكون النقيض هو النجاسة؛ لأنه وقد يكون عدم الطهورية، وقد يكون وصف الخمر في الجنة بأنها شراب طهور أي طيبة مباركة بخلاف خمر الدنيا فهي خبيثة محرمة، على كل حال فإنه يصلح مثالاً لمفهوم الصفة.
ومن دلالات المفهوم عند الأصوليين دلالة اللقب، وذلك كما في حديث عبادة عند مسلم: {الذهب بالذهب، والفضة بالفضة إلى آخر الحديث، فقوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخر الأصناف الستة دل عند من يقول بمفهوم اللقب؛ على أن الحكم لا يجري فيما عدا هذه الأصناف، الربا لا يجري فيما عدا هذه الأصناف المنصوص عليها، وهذا مذهب ضعيف، وجمهور العلماء على خلافه كما قد يمر -إن شاء الله- في أيام ودروس مقبلة، ومثل له بعضهم أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الماء من الماء} وهذا الحديث منسوخ، والمقصود أن الإنسان لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل، فدل هذا الحديث بمفهوم اللقب على أن غير الإنزال لا يوجب الغسل، لكن هذا منسوخ بالحديث المتفق عليه: {إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل} زاد مسلم {وإن لم ينزل} فهذا مفهوم اللقب.
من مفهومات المخالفة عند الأصوليين مفهوم الغاية، وهي أن يقيد الشرع شيئاً بغاية، مثل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} [البقرة:187] فأباح الأكل والشرب إلى غاية معينة؛ وهي أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ومثاله من السنة، أيضاً ورد في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى تذوق العسيل} أي لا يكفي مجرد العقد والدخول -مثلاً- حتى يجامعها، فقيد الحكم بغاية فدل على أنه قبل حصول هذه الغاية لا يوجد الحكم، فلو فرض أن رجلاً عقد على امرأة مطلقة بائنة هل تحل بمجرد هذا العقد لزوجها الأول؟ لا، إذن يثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق، هذا مفهوم الغاية.
من المفاهيم عن الأصوليين مفهوم الشرط وهو أن يعلق الشرع الحكم على شرط، وأمثلته كثيرة جداً منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ابن عباس: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} فهذا شرط، يعني أنه علق الطهارة على الدبغ، فدل على إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ودل الحديث بنصه (بمنطوقه) أن الإهاب إذا دبغ طهر، لكن بمفهومه على أن ما لم يدبغ فإنه نجس، هذه خمسة أنواع من دلالة المخالفة.
والنوع السادس والأخير هو مفهوم العدد أن ومثال مفهوم العدد حديث ابن عمر: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} الحديث رواه الأربعة عن ابن عمر، فالحديث قيد الماء بالقلتين، فنص الحديث على أن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث لكن دل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وقد سبق الحديث على هذه المسألة وأن هذا المفهوم عارض بمنطوقه.
وكل ما سبق من الأمثلة المقصود منه بيان معنى هذا المفهوم وهذه الدلالة، إذاً عندنا ستة أنواع تسمى دلالات أو مفهوم المخالفة، قد يكون مفهوم المخالفة مفهوم حصر، وقد يكون مفهوم صفة، وقد يكون مفهوم لقب، وقد يكون مفهوم غاية، وقد يكون مفهوم شرط، وقد يكون مفهوم عدد، وكل هذه الأنواع اختلف فيها أهل العلم، فبعض أهل العلم أبطل دلالة مفهوم المخالفة بالكلية، ككثير من الحنفية والظاهرية ذهبوا إلى أن جميع هذه الدلالات لا يؤخذ بها، وإنما يؤخذ بما نص عليه الشارع، أما ما سكت عنه الشارع فإنه يؤخذ حكمه إما من نصوص أخرى أو يبقى على الأصل فقد يكون الإباحة -مثلاً- أو قد يكون الحل أو ما أشبه ذلك، فمن العلماء -علماء الأصول- من نازع في دلالة المفهوم، ومنهم من نازع في بعض الدلالات، لكن جمهور العلماء على قبول أو الأخذ بدلالة المفهوم.
المقصود من ذلك أن العالم الذي لا يقول بدلالة المفهوم -مثلاً- قد يخالف مفهوم نص من النصوص، فليست مخالفته حينئذ في أنه لا يحترم النص، لكن لأنه لا يرى أن هذا المفهوم لازم له في الشرع، وهذا قد يجعله يترك كثيراً مما تفهمه أنت من النصوص أنه يدل بمفهومه على كذا، هو لا يدل عنده على ما ذكرت، هذا مثال للقضايا الأصولية التي يكون الاختلاف فيها مؤدياً إلى الاختلاف في كثير من المسائل الفقهية.
المثال الثاني: هو اختلاف علماء الأصول في الأمر وماذا يقصد، والأمر عند الأصوليين: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء، كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج:77-78] فهذه كلها أوامر: اركعوا واسجدوا، من أعلى إلى أدنى، هذا هو الأمر، اختلف علماء الأصول في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، ماذا يقصد؟ قد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للوجوب، وقد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للاستحباب أو للإباحة، كما في قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] فالصيد ليس واجباً أو مستحباً لكنه مباح، إنما لأنه منع في حال الإحرام؛ بين الله عز وجل أن الإنسان إذا حل من إحرامه حل له أن يصطاد.
إذاً: الأمر المجرد عن القرائن علام يدل؟ اختلف العلماء واختلف الأصوليون، ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأمر يقتضي الوجوب، الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يوجد قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب فهو واجب، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور:63] فهدد المخالفين للأمر بالفتنة أو العذب الأليم، ومنها قول موسى عليه السلام لهارون: {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه:93] قال الشاعر: أمرتك أمراً جازماً فعصيته ومنها -وهي ومن أقواها- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك} هل السواك مستحب؟ نعم مستحب بإجماع أهل العلم، ومع ذلك هو غير مأمور به بمعنى الإيجاب، بدليل قوله: {لولا أن أشق لأمرت} فدل على أنه ما أمر خشية المشقة، والمقصود أنه لم يأمرهم أمر إيجاب، كما أن قوله: {لولا أن أشق} دليل على أن المقصود أمر الإيجاب لأن المستحب ليس فيه مشقة، بحيث أن الإنسان في سعة في أن يفعله أو أن لا يفعله، هذا من أقوى الأدلة على أن الأمر للوجوب، والأدلة على ذلك كثيرة ولذلك كان القول بأن الأمر للوجوب قولاً قوياً راجحاً.
ومن العلماء والأصوليين من ذهبوا إلى