المذهب الثالث

وهو مذهب الإمام مالك، ونقله القاضي عياض عن أكثر العلماء من السلف والخلف: أن النهي عن التكني بأبي القاسم خاص في حال حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد وفاته فإنه لا بأس أن يكنى الإنسان أبا القاسم سواءً كان اسمه محمداً، أو لم يكن اسمه محمداً.

واستدلوا لذلك بأدلة كثيرة وقوية أيضاً منها: أولاً: السبب السابق في حديث أنس في قصة الأنصاري الذي قال: {يا أبا القاسم، فقال: لا أعنيك يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: تسموا باسمي، ولا تكنوا بكنيتي} فدل على أن هذا لئلا يلتبس الأمر، فيظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه المقصود فيكون في ذلك نوعاً من المشقة عليه.

ثانياً: وكذلك مما استدلوا به ما رواه أبو داود عن عائشة رضي الله عنها: {أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إني ولدت ولداً فسميته محمداً وكنيته أبا القاسم، وبلغني أنك تكره ذلك، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما الذي أحل اسمي وحرَّم كنيتي، أو حرم كنيتي وأحل اسمي والحديث فيه ضعف لأن فيه محمد بن عمران الحجبي وهو مجهول؛ لكن له شاهد رواه البخاري في التاريخ الكبير وأبو داود والترمذي، وقال حسن صحيح، عن علي رضي الله عنه أنه قال: {يا رسول الله! أرأيت إن ولد لي بعدك غلام، هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم} والحديث صححه الحاكم وابن التركماني والترمذي وغيرهم، وسنده جيد، وهو حجة في هذا الباب.

حيث أن علياً رضي الله عنه قال: {يا رسول الله، أرأيت إن ولد لي بعدك ولد -أي بعد وفاتك -هل أسميه محمداً وأكنيه أبا القاسم؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد لـ علي ولد من زوجته التي من بني حنيفة فسماه محمداً} وهو المعروف بـ محمد بن الحنفية، هو محمد بن علي بن أبي طالب، لكن أمه هي الحنفية، وكان يكنى بـ أبي القاسم، فهذا دليل.

والحديث جاء أيضاً له رواية أخرى عن ابن عساكر قال ابن حجر في فتح الباري: سندها قوي، وهي تدل على جواز ذلك بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام.

والإمام مالك كان له ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم، فقالوا له: يا إمام كيف يكون لك ولد اسمه محمد وكنيته أبو القاسم؟ فقال: ما أنا كنيته لكن أهله كنوه، ولا أرى بذلك بأساً، ولم أسمع في النهي عن ذلك شيئاً، وحمل الإمام مالك النهي عن التكني بأبي القاسم على أن ذلك كان خاصاً في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثالثاً: ومما يدل على قوة هذا القول: أن جماعة كثيرة من الصحابة كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكُناهم أبو القاسم، من ذلك: طلحة بن عبيد الله كان له ولد اسمه محمد بن طلحة، وهو رجل فاضل، وعابد من العباد الزهاد، حتى كان يسمى بالسجاد لكثرة سجوده وعبادته، وقد حفر السجود في جبهته، وأثر فيه، وكان عابداً قتل في المعارك بين علي ومعاوية رضي الله عنهم، واختلفوا فيمن قتله قيل: قتله رجل من بني أسد، وكان يمدحه فيقول في مدحه: وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما يرى الناس مسلم شككت إليه بالرماح قميصه فخر صريعاً لليدين وللفم على غير شيء غير أن ليس تابعاً علياً ومن لا يتبع الحق يندم يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم رضي الله عن محمد بن طلحة، لما جاء هذا الرجل ليطعنه، لم يرد أن يدافع عن نفسه، ويحتمل أنه كان مع أبيه فلم يرد أن يدافع عن نفسه، واستشار عائشة، فقالت له: كن كخير بني آدم، إن مد إليك ليقتلك فلا تقتله أنت، فسكت محمد بن طلحة ولم يدافع عن نفسه فلما أهوى إليه هذا الرجل بالرمح ذكره بالقرآن، ذكره بـ" حم" وذكره بالله جل وعلا فهذا الرجل أقدم وقتل وقال: يذكرني (حم) والرمح شاجر فهلا تلى (حم) قبل التقدم أي لو أنه فعل ذلك لما قتلته، فـ محمدٌ السجاد رضي الله عنه -وقد ذكر هذه القصة الحاكم في المستدرك- كان يكنى بـ أبي القاسم واسمه محمد، وجماعة آخرون من الصحابة، منهم محمد بن عبد الرحمن بن عوف، ومنهم محمد بن أبي بكر، وكنيته أبو القاسم أيضاً كما هو معروف ومشهور، ومنهم أيضاً محمد بن الأشعث وغيرهم كثير.

فالمهم أن ذلك كان معروفاً في الصحابة، حيث كان يسمي الواحد منهم ولده بمحمد ويكنيه بأبي القاسم.

وكذلك سعد بن أبي وقاص، وجعفر بن أبي طالب، كان لهم أولاد أسماؤهم محمد وكناهم أبو القاسم، وحاطب بن أبي بلتعة وغيرهم، هذا يدل على أن هذا الأمر كان شائعاً عند الصحابة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب بعض أهل العلم إلى كراهية ذلك دون تحريمه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015