تعلمون -أيها الإخوة- أن ضراوة الحرب على الإسلام في هذا العصر؛ أشد منها في أي عصر مضى, وقد نكص كثير من المسلمين عن هذا الدين، وتحقق وعد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما في صحيح مسلم من حديث ثوبان أنه قال: {وستلحق طوائف من أمتي بالمشركين وستعبد طوائف من هذه الأمة الأوثان} فتحقق هذا الوعد، ولحقت طوائف من هذه الأمة بالمشركين لحوقًا حقيقيًا أو لحوقاً معنويًا، وعبدت طوائف من هذه الأمة الأوثان عبادةً حقيقية، كمن يطوفون بالقبور، ويسألون أهلها، ويرجون منهم قضاء الحاجات، وتفريج الكروب، وشفاء المرضى، ويصلون إلى هذه القبور.
أو من يعبدون أصنامًا أخرى، كالقوانين الوضعية المخالفة لشريعة الله عز وجل، والمستوردة من الشرق أو من الغرب، أو الأنظمة والنظريات الإلحادية, والمبادئ الهدامة المختلفة.
وإزاء هذا الوضع نجد أن الله تعالى وعد أنه حين يوجد هذا فإنه يوجد في مقابله أمر آخر، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِم} [المائدة:54] ويقول: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] .
ففي هاتين الآيتين إشارة إلى أنه إذا وجد في الأمة من ينكص عن الإسلام, أو يتراجع عن الجهاد، أو عن البذل والإنفاق في سبيل الله, فإن الله وعد بأنه سيأتي في ذلك الوقت بقوم يجاهدون في سبيل الله, وينفقون ولا يبخلون, ولا يكونون كهؤلاء الناكثين الناكصين.
ولذلك ذكر الخطيب البغدادي عن أحمد بن سنان: أن رجلاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام, وقد دخل المسجد؛ فرأى في المسجد حلقتين في إحداهما الإمام أحمد بن حنبل إمام أهل السنة, وفي الأخرى أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة, فدخل النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى أحمد بن أبي دؤاد ومن معه من أهل الاعتزال، وأشار إليهم وقال: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] وأشار إلى الإمام أحمد ومن معه.
فهذه القضية ظاهرة، فمتى ما وجد التراجع، والردة الكلية أو الجزئية عن الإسلام فإنه ويوجد في مقابل ذلك من الرجال الأفذاذ من يقيمون راية الدين, وهذا موجود في هذه العصور المتأخرة, وموجود في عصرنا الذي نعيش فيه.
صحيح أن النوعية تقل، فنحن لو قسنا رجال الإسلام في هذا العصر, برجال الإسلام في العصور الأولى, لربما وجدنا أنهم أقل منهم بكثير، ولا شك في ذلك, فكلما تقادم العهد كلما ضعفت نوعية الرجال القائمين بشأن الإسلام، وهذه سنة لله في خلقه.
لكننا نقول مع ذلك: رجال الإسلام -في الجملة- هم خير من على ظهر الأرض في هذا اليوم؛ وحملة راية الإسلام من العلماء والدعاة والمصلحين على ما فيهم من نقص أو تقصير أو مداهنة أو إيثار للراحة أو ما أشبه ذلك من العيوب التي يرميهم بها كثير من الناس, نقول: هم على ما فيهم خير أهل الأرض.
وفي هذه المناسبة اتذكر أيضًا الكلمة التي رواها عمر بن حفص عن أبيه أنه قيل له: ألم تر إلى أهل الحديث كيف تغيروا وكيف فسدوا؟ فقال: هم على ما هم خيار القبائل, فرجال الحديث على رغم ما أصابهم من ضعف أو تغير أو اختلاف هم خيار القبائل, وإن كان فيهم عيب ففي غيرهم عيوب.