وهذا المنهج لم يكن منهجًا نظريًا -فقط- في آيات القرآن الكريم, أو أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام, بل إنه طبق عمليًا, ولعل أبرز صورة طبق فيها هذا المنهج؛ هي ما يعرف بعلم الجرح والتعديل, فقد ورث المسلمون تراجماً لأعداد كبيرة من الرواة ربما يزيدون على عشرات الآلاف من رواة الحديث, وكان الأئمة يتكلمون في كثير من هؤلاء جرحًا أو تعديلاً, وأنت لو نظرت في منهج هؤلاء الأئمة في الجرح والتعديل؛ لوجدت العجب العجاب, ويكفي أن أشير -مثلاً- إلى أن علماء الجرح والتعديل كانوا يوثقون بعض الرجال على رغم أنهم أهل بدع وضلال, كما قال بعضهم عن أحد هؤلاء، قال: فلان ثقة في الحديث رافضي خبيث، وبغض النظر عن كون هذه الكلمة لا تليق بالرجل الذي قيلت فيه؛ فإن المقصود أن هؤلاء العلماء كانوا مع رأيهم أن فلانًا فيه انحراف في جانب معين؛ لم يمنعهم هذا الانحراف من أن يبينوا ما فيه من مزية في الجانب الآخر.
ولذلك وثَّقوا عددًا غير قليل من أهل البدع, مع بيان بدعتهم، فهذا جانب العدل والإنصاف حتى مع من يكون بيننا وبينه اختلاف, وحتى مع من ننكر عليه كثيرًا من البدع والانحرافات الموجودة عنده, فلا يجعلنا ذلك ننسى فضائلهم وحسناتهم.
وفي مقابل ذلك, نجد أن علماء الجرح والتعديل كانوا يذكرون الجرح ولو كان في أقرب قريب.
ولعل من أجلى الصور في ذلك ما ذكره العلماء عن علي بن المديني - علي بن عبد الله بن أبي نجيح السعدي المعروف بـ علي بن المديني - فقد سئل علي بن المديني عن أبيه، ما تقول في فلان؟ فقال: سلوا عنه غيري, قالوا: إنما نسألك أنت, قال: أما إذ أبيتم فإنه الدين، هو ضعيف, فهو حاول أن يدفع هذه الكلمة وأن يجعل غيره يقولها، فلما أصروا عليه, قال في أبيه كلمة الحق: أبي ضعيف في الحديث فلا تأخذوا عنه.
هذا المنهج العادل عند علماء الجرح والتعديل يجعلهم يوثّقون الخصم إذا كان أهلاً للتوثيق من حيث الرواية، ويضعفون أقرب قريب.
ومن باب أولى أنهم كانوا يضعِّفون من كان يوافقهم في المنهج، فقد يضعفون رجالاً من أهل السنة, سواءً تضعيفًا مطلقًا, أو تضعيفًا مقيدًا, كما قيل في نُعيم بن حماد وابن بطة وغيرهما، إلا أنهم من أئمة أهل السنة المشهورين.
فهذا المنهج -أيها الإخوة- نريد أن نعمل على تطبيقه على رجال الإسلام في هذا العصر, مع الإشارة إلى بعض الأخطاء التي تقع من كثير ممن يتحدثون عن هؤلاء الرجال إشارة مختصرة بقدر ما يسمح به الوقت.