مقارنة بين الحرمان الدنيوي والحرمان الأخروي

وفي مقابل قضية اللذات الدنيوية مع لذات الآخرة نقارن، العكس أيضاً، وهي الحرمان الدنيوي مع حرمان الأخروي.

فبعض الصالحين بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ أي: لما ذكرت عنده النار، فقيل: لِمَ تبكي؟ قال: والله لو أخبرني الله عز وجل أنه سوف يسجنني في حمام لكان هذا أمر عظيم؛ فكيف وقد أخبرت أني إذا عصيت سوف أسجن في النار؟ وقد أخبرنا الله عز وجل في كتابه وفي صحيح سنة رسوله صلى الله عليه وسلم عما أعد الله تعالى لأهل النار فيها، من الأمور التي يطول العجب منها، وأعظم ذلك: حرمانهم من رؤية الله تعالى والجنة والخير وإقامتهم الدائمة الأبدية في هذا العذاب الذي لا ينقطع، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الموت يكون في يوم القيامة بصورة كبشٍ أملح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة؛ أتعرفون هذا؟ فيشرئبون وينظرون، ويقولون: نعم نعرفه، هذا الموت، ويقال: يا أهل النار؛ أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم! هذا الموت قال: فيذبح في قنطرة بين الجنة والنار، ويقال: يا أهل الجنة؛ لا موت، ويا أهل النار؛ لا موت، كلٌ خالد فيما هو فيه، فيزداد أهل الجنة سروراً إلى سرورهم ويزداد أهل النار حزناً إلى حزنهم} .

ويقول الله عز وجل في قضية الجهاد: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ * فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [التوبة:81-82] فقوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا} [التوبة:81] إلى قوله {لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81] ما هو الجواب؟ {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] .

إذاً: هل قارن هؤلاء بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة؟ فهم فعلاً تخلصوا من الحر ولم يخرجوا في الغزو فسلموا، فهم جلسوا تحت المكيفات وفي الظل الظليل وفي الهواء البارد، في مزارعهم وفي ثمارهم، ولم يخرجوا في الحر، فسلموا من هذا الخطر القريب الصغير، وهو خطر الحر الدنيوي لكنهم وقعوا في الحر الأعظم، وهو نار جهنم، {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً} [التوبة:82] فلو كان عندهم فقهٌ وعقلٌ وعلم لتحملوا الحر الدنيوي في سبيل النجاة من الحر الأخروي.

وكذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم -في الحديث الآخر لما ذكر المرور بين يدي المصلي، أي: الذي يمر بين يدي المصلي- قال: {لو يعلم المار بين يدي المصلي، ماذا عليه -أي: من الإثم- لكان يقف أربعين خيراً له من أن يمر بين يديه} يعني: أنت مررت بين يدي المصلي الآن، وقطعت صلاته، وإذا قيل لك لماذا مررت بين يديه؟ تقول: أنا مستعجل ولم أستطع أن أنتظر حتى يكمل الصلاة، فيقول لك الرسول صلى الله عليه وسلم: لو تعلم العقوبة لكان لك أن تنتظر أربعين سنة واقفاً خيراً من أن تمر بين يديه؛ لكن الإنسان غفل عن العذاب الأخروي وفطن للعذاب الدنيوي وهو تأخره عن عمله أو طول انتظاره أو وقوفه في الشمس؛ فاختلت الموازين عنده.

ولعل من الأشياء التي يكثر الناس من الحديث عنها اليوم هي قضية الأسلحة الكيماوية، فقد أصبحت خطراً كبيراً والكثير منا قد يكون لأول مرة يسمع بهذا الكلام في مناسبة الأحداث الأخيرة، فإن هناك أسلحة كيماوية كثير من الناس لأول مرة يعرفونها أو يسمعون بها أو يسمعون الحديث عن خطرها وآثارها المدمرة، فأصبحت شبحاً مزعجاً لكثيرٍ من الناس، حتى أصبحت بعض النصائح والتوصيات تقول للناس: لا فائدة، لا بد من الموت، وعليك الاستسلام والانتظار حتى يأتيك الموت.

فهذا الخطر كبر في أعين الناس، وربما قد يمنع بعض الناس من الجهاد في سبيل الله.

وافترض أنه كان هناك جهاد في سبيل الله، فأراد أن يجاهد وخشي من هذه الأشياء، فقد لا يجاهد في سبيل الله؛ لماذا؟ لأنه خائف، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وأحمد وهو حديث صحيح: {لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم} أي: ودخان جهنم ولا شك لا يقارن بأسلحة الدنيا مهما كان الأمر، فإذا أردت النجاة من هذا الدخان في جهنم؛ فعليك أن تبتغي الموت أو القتل مظانه، وأن تسعى إلى أن تعفر وجهك وأنفك بالغبار في سبيل الله عز وجل، وإن ترتب على ذلك مفاسد لك بالنسبة للدنيا، من مرض أو موت أو ما أشبه ذلك، فهذه في الحقيقة مصلحة وليست مفسدة.

وأنا الآن تحدثت لكم عن السبيل إلى التخلص من وهم الفوت -وهم الخوف من فوات المصالح الدنيوية- فذكرت أولاً: تصور هذه الأشياء على حقيقتها؛ ثم ذكرت معرفة أن قدر الله كائن، ثم ذكرت ساعة النظرة: بحيث ينظر الإنسان إلى الدنيا وإلى الآخرة معاً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015