علاج وهم الفوت

ولما كان كل الناس يحبون أولادهم ويتعلقون بهم، لكن لم يكن هذا ليمنعهم من البذل والمجاهدة في سبيل الله عز وجل.

فكيف نعالج التعلق بالدنيا؟! سواء كان التعلق بالزوجة، فيخاف الإنسان على زوجته أحياناً، أو يخاف على فوات اللذات، ويخاف على الرزق -كما ذكرت- يخاف على أهله، يخاف أن يحرم من هذه الأشياء؛ بل يخاف من أن يأتيه أشد منها وعكسها من المصائب الدنيوية -من الفقر والذل والهوان وما أشبه ذلك- كالجوع أو الخوف، فيخاف من هذه الأمور؛ فما هو العلاج؟ العلاج هو: أولاً: أن تتصور الأمور الدنيوية على حقيقتها، وتعرض عن الشكليات، فإياك والتعلق بالشكليات! وخذ مثلاً الحياة: كيف تقاس الحياة؟ وهل تقاس الحياة بعدد الأيام والليالي؟ أي: فلان عاش مائة وعشرين سنة فمعنى ذلك أنه انتهى من الحياة بشكلٍ جيد وأخذ حقه وافياً، والآخر الذي عاش أربعين أو خمسين سنة فهذا مسكين! ولم يعش شيئاً؟ كلا، فالحياة لا تقاس بالمدد والأعمار! فكم من الناس عاش أربعين سنة، لكن لما مات كانت الدنيا كلها قد انتفعت به؛ فأصبح كما يقال: ملء سمع الدنيا وبصرها، وقد تجد شاباً مات في الثلاثين أو بعد الثلاثين بقليل، ومع ذلك هو باقٍ بين الناس بالذكر الحسن؛ وبالمؤلفات النافعة، بالعلم، بالدعوة، بالمواقف المذكورة المشكورة المشهورة، بالجهاد، بالمنهج الذي خطه ورسمه للناس، المهم أنه باق بين الناس وإن كان في قبره:- يا رب حيٌ رخام القبر مسكنه ورب ميتٍ على أقدامه انتصبا إذاً: الحياة لا تقاس بالأيام والليالي، بل تقاس بالآثار، ولذلك أوجه إليك سؤالاً وأرجو -إن شاء الله- أنه من قلبٍ خالص، وأن توجه هذا السؤال إلى نفسك؛ بل هما سؤالان: السؤال الأول: اسأل نفسك: كم عمرك؟ السؤال الثاني: ماذا قدمت في هذا العمر الذي مضى؟ قد يكون عمرك أربعين أو خمسة وأربعين، فمعناه: أن زهرة عمرك انتهت، قوة الشباب وأريحيته، وتوقده، وحيويته، ونشاطه انتهت أو كادت، فتدارك ما بقي من عمرك، بارك الله فيك! والرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة ورواه البخاري عن أنس يقول: {من سرَّه أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره؛ فليصل رحمه} .

فالمقياس في بسط الرزق ليس هو كثرة المال، والمقياس في طول العمر ليس هو كثرة الأيام والليالي، فكم من إنسان كان ماله وبالاً عليه.

وأنا -والله- مرة من المرات زرت واحداً من كبار الأثرياء أصحاب رءوس الأموال، الذين يعدون على الأصابع؛ فوجدت هذا الرجل في حالة يرثى لها! في همٍ وغم لا يعلمه إلا الله عز وجل، وقد فقد وعيه وعقله وأصبح كأنه صبيٌ صغير، فقال لي: هلمَّ معي أريك بيتي -بيت سكنه منذ عشرات السنين- فصار يذهب بي إلى هذه الغرفة وتلك الغرفة، ويتذكر ذكريات الطفولة والصبا، وأيامه في صغره، وأعماله وعمله…الخ، فقلت سبحان الله! رجع الإنسان كما كان؛ كأن فترة الدنيا هذه كلها قد انتهت وشُطِّب عليها؛ فسار الإنسان في آخر عمره لا يتذكر إلا أيامه الأولى، أيام شظف العيش، وأيام الجوع، وأيام الفقر، وأيام الكد والكدح، فماذا نفع المال، وماذا نفع هذا الإنسان؟! لا شيء.

إذاً: ليس المقياس كثرة المال؛ بل كثير من أصحاب رءوس الأموال هم رواد المصحات النفسية، فهم يعيشون من الأمراض والأحزان والمخاوف شيءٌ لا يوصف أبداً، ولا أحد يتصوره، كذلك بالنسبة للدنيا ليس المقياس هو كثرة الأيام والسنين؛ بل المقياس هو مدى ما فعله الإنسان؛ ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه} .

الإيمان بالقدر: ثانياً: العلاج الثاني: هو أن يعرف الإنسان أن المقدور كائن، فإذا كان الله عز وجل كتب لك في هذه الدنيا شيئاً من ألوان المسرات الدنيوية، فسوف يصيبك مهما كان، حتى لو تركته فإنه يلحقك، وكم من إنسان سواء من السابقين أو اللاحقين كان يدفع الدنيا عنه بالراحتين وباليد ثم تلحقه الدنيا.

فـ عبد الله بن المبارك هل كان يبحث عن الدنيا؟ أبداً كان يركلها بقدمه وتقبل عليه؛ وفي مقابل ذلك: كم من إنسان يواصل كلال الليل بكلال النهار، ويتعب ويكدح من أجل الحصول على الدنيا وما حصل عليها؛ فالأسباب مشروعة فعلاً؛ لكن المقسوم سيقع لك.

الاهتمام بالآخرة والعمل لها:- ثالثاً: العلاج الثالث هو: أن يوسع الإنسان نظرته بحيث يضم الآخرة إلى الدنيا -كما ذكرت في مطلع الحديث- فيفكر بالآخرة كما يفكر بالدنيا، فلا ينتهي نظره عند تسرب العمر، بل يمتد إلى الدار الآخرة وما فيها.

وهاهنا أنقل لكم كلاماً للإمام ابن الجوزي رحمه الله! في كتاب صيد الخاطر وضع له المحقق عنواناً، يقول: لا ينبغي الحزن للموت، يقول: هو يتكلم عن نفسه: ما زلت على عادة الخلق في الحزن على من يموت من الأهل والأولاد، ولا أنظر -أو أتذكر- إلى بلى الأبدان في القبور إلا وأحزن لذلك حزناً شديداً.

يقول: فمرت بي أحاديث كانت تمر بي ولا أتفكر فيها، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما نفس المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرده الله عز وجل إلى جسده يوم يبعثه} -يعلق أي يأكل من شجر الجنة فهذه روح المؤمن- يقول: فرأيت أن الرجل إذا ارتحل إلى الدار الآخرة فإنما يرتحل إلى الراحة، وأن هذا البدن ليس بشيء؛ لأنه مركب تفكك وفسد، وسيبنى بناءً جديداً يوم البعث، فلا ينبغي أن يتفكر الإنسان في بلاه ولتسكن نفسه إلى أن الأرواح انتقلت إلى راحة، فلا يبقى كبير حزنٍ للإنسان، وإن اللقاء للأحباب في الدار الآخرة عن قريب، وإنما يبقى الأسف -عند من يتأسفون على موت الأحباب والأصحاب- لتعلق الخلق بالصور، فلا يرى الإنسان إلا جسداً مستحسناً جميلاً قد نقض فيحزن لذلك، والجسد ليس هو الآدمي وإنما هو مَرْكب الآدمي، وإنما الآدمي حقيقة هو الروح، فالأرواح لا ينالها البلى والأبدان ليست بشيء.

هكذا يقول رحمه الله وهو منطقٌ حسن من هذا الرجل العارف البصير رحمه الله!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015