أمثلة على الفوت

وأضرب لكم -مثلاً- والأمثلة في موضوع الفوت، في الواقع تطول جداً لكن أمثلة سريعة.

خذ مثلاً نعيم الدنيا وقارنه بنعيم الجنة، إن نعيم الدنيا معروف، ويكفيك أن الله عز وجل كتب الفضيحة على الدنيا بحيث أن كل لذة في الدنيا فهي مشوبة بأمر يكرهه الناس، فلو نظرت -مثلاً- إلى الطعام! متى يكون الطعام لذيذا؟ إذا شعرت بالجوع، إذاً ألم الجوع يسبق لذة الطعام، وكذلك الطعام إذا ذكر الإنسان إلى ماذا يصير! فيجد أنه يصير إلى ما هو معروف فيكرهه، ويدرك أن لذات الدنيا مشوبة ومطوقة ومنغصة بأمور يمقتها الإنسان ويكرهها.

ونفس الكلام يمكن أن نقوله: عن لذة النكاح -وهي أعظم لذات هذه الدنيا- فيجد الإنسان أن هذه اللذة فيها من القبح والكراهة شيءٌ قد يمتعض منه الإنسان ويكرهه، ولولا أن النفس والجبلة قد جبلت عليه، وهي حكمة من الله عز وجل لاستمرار النسل والتوالد إلى أن يشاء الله عز وجل.

أما الآخرة: فأمرٌ آخر وراء ذلك، فليس فيها جوع ولا عطش ولا كدر ولا غم ولا هم ولا حزن، وإليك هذه الأمثلة.

في صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه يقول: [[غاب عمي أنس بن النضر عن معركة بدر فقال: يا رسول الله، غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، والله لئن أشهدني الله قتالهم، ليرنَّ الله ماذا أصنع، وهاب أن يقول غيرها -أي: ما استطاع أن يقول غير هذه الكلمة- قال: فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون -انهزموا- قام أنس بن النضر فقال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني المؤمنين- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني المشركين- ثم استقبل المشركين يضربهم بسيفه ويقاتلهم قتالاً شديداً، فلقيه سعد بن عبادة فقال يا سعد، الجنة ورب النضر، إني أجد ريحها من دون أحد]] فهو يحلف بالله أنه وجد ريحها، وحاشاه أن يكذب.

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وباردٌ شرابها والمؤمنون الذين كانوا يقاتلون في الأزمنة الأخيرة كانوا يقولون بلهجتهم العامية: هبت هبوب الجنة وين أنت يا باغيها فكانوا يحسون بريح الجنة فيقولون: هبت ريح الجنة، وكان يقول: [[الجنة ورب النضر! إني لأجد ريحها من دون أحد]] والله الذي لا إله إلا هو إنه لصادق.

والقضية ليست تخييل ولا رسم ولا تصوير، فالرجل لشدة شوقه إلى الجنة شم ريحها في أنفه؛ فاشتاق إليها وأسرع إليها، وصار يقاتل المشركين حتى قتل، وبعد المعركة بحثوا عنه، فما عرفه أحد إلا أخته، يقول أنس: [[فوجدنا به بضعاً وثمانين ضربة ما بين طعنة بسيف أو رمية بسهم أو ضربة برمح، ووجدناه قد قتل ومَثَّل به المشركون، فما عرفه أحد إلا أخته عرفته ببنانه، قال: فكنا نظن فيه وفي أمثاله نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23]] ] وخذ -يا أخي الكريم- هذا المثال الآن: أنس بن النضر كبرت عنده الحقائق وصغرت عنده الأوهام، فحقيقة الجنة كبرت عنده حتى أصبحت حقيقة حسية يشمها بإحدى الحواس الخمس التي أعطاه الله عز وجل وهي الشم، وصغرت عنده الدنيا حتى أصبح يطؤها بقدمه ولا يلتفت إليها.

فهنا تحرر هذا الرجل من الوهم -وهم التعلق بالدنيا- وكيف لا يكون كذلك والرسول صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: {لقاب قوس أحدكم في الجنة خيرٌ مما تطلع عليه الشمس وتغرب} ويقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري أيضاً: {لموضع سوط أحدكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها} أٌف وتُفٍ على لذات الدنيا ونعيمها وبهرجها بالقياس إلى هذه الجنة!! فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، لكن ما هو الجاري؟ وما هو الحاصل بالنسبة لنا؟ الحاصل: أن لذات الدنيا كبرت في قلوبنا، فأصبحنا نتفنن -مثلاً- بالمطاعم والمشارب والملابس والقصور والسيارات والنساء، وأغرقنا في هذا الأمر حتى غلب علينا، وبالمقابل صغرت عندنا الحقائق الكبيرة -حقائق الجنة ونعيمها- حتى أصبحنا لا نتذكرها إلا في المناسبات، من رمضان إلى رمضان، أو بمناسبات الوعظ والتذكير يتذكر الإنسان هذا الأمر، وقد يبكي بعض الصالحين ثم يغادر ذلك وينساه، ويعود إلى ما كان عليه في دنياه، وهنا الخطأ فيجب أن نعيد الأمور إلى نصابها.

وخذ مثلاً نساء الجنة من الحور مع نساء الدنيا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم -وهذا الحديث من قرأه وتأمله؛ يعجب له أشد العجب، والحديث رواه البخاري - يقول صلى الله عليه وسلم: {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الدنيا لأضاءت ما بينهما ولملأته ريحاً} الله أكبر! وهذا كلام الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، فهي تضيء ما بين المشرق والمغرب ولملأته ريحاً من طيب ريحها، وقارن هذه بأجمل نساء الدنيا وأعطر نساء الدنيا، وهل هناك وجه للمقارنة؟! هل يقارن الذهب بالخزف؟ هيهات هيهات، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} .

إذاً: فأعد الحساب يا أخي الحبيب: {ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها} أي: خمارها إن صح التعبير كما نسميه في هذه الدنيا.

إذاً: امرأة من نساء أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها!! أفلا ما تستحق هذه الدنيا أن نقول لها: بئس لك متى ما كنتِ عائقاً في الطريق إلى الله عز وجل والدار الآخرة؟! بلى والله.

فيا أخي: أعد النظر في هذا الحديث، واقرأ وتأمل فإن هذا هو كلام الصادق المصدق: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3-4] {لو أن امرأة من أهل الجنة اطلعت إلى أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها} .

ونعود -أيضاً- إلى ابن الجوزي رحمه الله! وننقل لكم النقل الثالث والأخير، يقول -أيضاً- في صيد الخاطر: والله إني لأتخايل دخول الجنة، ودوام الإقامة فيها من غير مرضٍ ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ؛ بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتورها منغص، في نعيمٍ متجدد في كل لحظة؛ بل في زيادة لا تتناهى، فأطيش يقول رحمه الله: فأطيش ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه، فوا عجباً من مضيع لحظةٍ يقع فيها، فتسبيحة يغرس لها في الجنة نخلة أكلها دائمٌ وظلها، فيا أيها الخائف من فوت ذلك، شجَّع قلبك بالرجاء، ويا أيها المنزعج لذكر الموت تلمح ما بعد مرارة الشربة من العافية.

فما هي الأشياء التي -ونحن نتحدث عن وهم اللذة الدنيوية- نتحسر على قوتها أيها الإخوة؟ نحن بحاجة إلى أن نكون صرحاء مع أنفسنا.

نحن غالباً ما نتحسر على فوات الدنيا: فوات المنصب أو الشهادة أو الوظيفة أو الزوجة أو ما أشبه ذلك، وهذا غالب حديث الناس، فهم يتحسرون على فوات أمورهم في الدنيا لماذا؟ لأنه كبر عندهم الصغير وهي الدنيا -وقد تقدم- وصغر عندهم الكبير وهي الآخرة، فتولد عندهم من ذلك وهمٌ عظيم.

أما الصالحون والعارفون فكانت حسرتهم على فوات الخير -فمثلاً- من التابعين من كان يتحسر على فوات صحبته صلى الله عليه وسلم كما كانوا يقولون لـ حذيفة رضي الله عنه: [[والله لو أدركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ما تركناه يمشي على الأرض ولحملناه على أكتافنا]] وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم حين ذكر بعض من يأتون بعده، وأن الواحد منهم يتمنى أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم ولو وُتر أهله وماله، يعني: يتمنى أن يخسر ويفقد الدنيا بمقابل أن يرى الرسول صلى الله عليه وسلم، فكانوا يتمنون صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهكذا الصالحون حتى اليوم.

وأسألكم بالله! هل هناك واحد منا جلس يوماً من الأيام حزيناً فلو سئل ما سبب حزنك؟ لقال: حزنت لأنني حرمت من رؤية وجه المصطفى صلى الله عليه وسلم، وحرمت من سماع كلامه وحديثه، وحرمت من الجلوس إليه، وحرمت من الصلاة وراءه؟! فهل هناك أحد منا مرَّ في خاطره هذا الشعور؟! اصدقونا فوالله إن كنتم مثلي فلا أظن أحدكم كذلك، فينبغي أن نعيد الحساب إذاً.

مثلاً: كانوا يتحسرون على فوات -المشاهد تقدم سمعتم قبل قليل- فـ أنس بن النضر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله غبت عن أول قتالٍ قاتلت فيه المشركين، يعني: معركة بدر غاب عن هذا المشهد وعن هذا الموقف العظيم -معركة بدر- فيفكر بعملٍ صالح في معركة أحد، فهو يتحسر على فوات ذلك، ويتحسرون على فوات بيعة العقبة، وعلى فوات بيعة الرضوان، وعلى فوات المشاهد العظيمة والمناسبات الكبيرة، وهم يتحسرون -أيضاً- على فوات الشهادة، فكان الواحد منهم يذم نفسه ويوبخها على أنه ما رزق الشهادة، ويقول مخاطباً نفسه: [[لو كان لكِ عند الله تعالى قدر؛ لرزقك الشهادة في سبيله]] أما نحن فحسراتنا على هذه الدنيا الفانية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015