وهم الفوت

وهم آخر غير الموت، ورأيت أن أسميه: وهم الفوت، وأعني بالفوات: خشية الإنسان فوات المصالح الدنيوية واللذات الدنيوية، وأن يبتلى بضدها من المصائب والنكبات، كالخشية -مثلاً- على المال والرزق أو الخشية على الأهل، والخشية على الولد، أو الخشية على سائر اللذات الدنيوية من المآكل والمشارب والمناكح والمراكب، ومثله الخشية على الحرية، وهذه من أعظم الأشياء التي يخاف منها الإنسان، فهو يخاف من أن يحبس، فبعض الناس يعتبر الحبس موتاً آخر.

ولما سجن الأديب المعروف العقاد -سجن تسعة أشهر- ثم أخرج من السجن، قال قصيدة طويلة جميلة، من ضمنها يقول: وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد وانظر ومنطق الحكماء!: والحقيقة هذا الكلام -بغض النظر عن مصداقيته- كلام يقول الجميع أنه صدق، فهو سجن تسعة أشهر ثم خرج، فماذا يقول؟ وكنت جنين السجن تسعة أشهر وهأنذا في ساحة الخلد أولد ففي كل يوم يولد المرء ذو الحجا وفي كل يوم ذو الجهالة يلحد أي: إن العاقل يولد كل يوم، يعني: بالخبرة والتجربة والمعرفة، وأما الجاهل الغبي فيموت في اليوم الواحد مرات.

إذاً: الإنسان عنده وهم آخر غير وهم الموت؛ وهو وهم الفوت: فوات المصلحة، فوات الدنيا، فوات الرزق، فوات المال، فوات الأولاد، فوات الأهل، فوات اللذة، فوات السيارة، فوات المراكب الدنيوية؛ وهذا هو الذي يمنع الإنسان من البذل والمجاهدة في سبيل الله، فكم من واحدٍ يقعد عن الجهاد! لماذا؟ لأنه خائف على أولاده، ولعلكم جميعاً تذكرون ذلك الشاعر الذي يقول: لولا بنيات، وهو يقصد بناته الصغار: لولا بنيات كزغب القطا ردَّدن من بعض إلى بعض لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض لو هبت الريح على بعضهم لامتنعت عيني عن الغمض فهل تعتقد أن المجاهدين الصادقين لا يحبون أولادهم؟ والله إن الواحد منهم يضم ولده على صدره حتى يكاد أن يكسر أضلاعه؛ من شدة شوقه وحبه له وحنانه وعطفه عليه، ويكفيك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المجاهدين، وإمام المتعبدين، يذهب إلى ابنه إبراهيم وهو عند أبي سيف القيم كما في صحيح البخاري، حيث كانت زوجة أبي سيف ترضع إبراهيم -كانت حاضنة ومرضعة لـ إبراهيم ابن الرسول صلى الله عليه وسلم- فلما مرض إبراهيم؛ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أصحابه إلى أبي سيف فتعجل بعض الناس وتقدم وقالوا لـ أبي سيف: الرسول صلى الله عليه وسلم قادم -أي: استعد- ليطفئ الكير حتى يزول الدخان، ويستعد لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فحمله وشمه وقبله.

ثم بعد ذلك جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى إبراهيم وهو يجود بنفسه -أي: يموت- فضمه النبي صلى الله عليه وسلم إليه وبكى ودمعت عيناه؛ فتعجب الصحابة، وقالوا: هذا وأنت رسول الله!! هذا أنت يا رسول الله تبكي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {ألا تسمعون؟! إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا أو يرحم، وأشار إلى لسانه} والحديث الآخر: {إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنَّا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} .

وقال صلى الله عليه وسلم: {إن له مرضعاً تكمل رضاعه في الجنة} وكذلك عمر: جاءه مرةً عيينة بن حصن أو غيره فوجد أنه يقبل الصبيان -وعمر هو أمير المؤمنين- يضم هذا ويشم هذا ويحمل هذا ويضع هذا! وهذا حصل للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً، فقال له الرجل: أتقبلون صبيانكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {من لا يرحم لا يرحم} وعمر أجابه بنحو ذلك.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015