والتصور الصحيح لهذه القضية: هو أن يدرك الإنسان أن الموت أمرٌ عاديٌ جداً، فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم أصلاً، سواء الذي يخاف من الموت أشد الخوف حتى أنه وصل إلى درجة الوسوسة؛ أو ذلك الإنسان الذي دفعه الخوف إلى ترك الجهر بكلمة الحق، أو ترك الأمر المعروف والنهي عن المنكر، أو ترك الجهاد في سبيل الله؛ فكل هؤلاء لم يضعوا الموت في موضعه الطبيعي ولم يعرفوا الموت حق المعرفة.
فالموت هو أحد الأسباب الموصلة إلى النعيم، بل هو ولادة أخرى، كما أنك ولدت أول مرة من بطن أمك؛ كذلك تولد مرة أخرى بالموت، وتنتقل إلى عالم آخر؛ ولذلك يقول الشاعر وهو يتكلم عن أحد الموتى: تمخضت المنون له بيومٍ أتى ولكل حاملة تمام يعني: كأنه قال: إن المنون -وهو الموت- مخاض، يعني: ولادة أخرى للإنسان؛ ولذلك يقول بعض الحكماء: إن الإنسان في الدنيا مثل الفرخ في البيضة، فكما أن اكتمال نمو الفرخ وبلوغه -كماله المقدر له- يكون بانكسار هذه البيضة وخروجه منها، فكذلك الإنسان خروجه من هذه الدنيا -خاصةً الإنسان المؤمن- هو نوعٌ من الكمال له:- أولاً: لخروجه على الإيمان -هذا إذا خرج مؤمناً -وتجاوزه الخطر، وتجاوز القنطرة.
ولذلك لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت كانت فاطمة رضي الله عنها تقول: {واكرب أبتاه، وترى النبي صلى الله عليه وسلم يصيبه الكرب ويتغشاه، ويتفصد جبينه عن العرق، فتقول: واكرب أبتاه، فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم} أي: آخر ما عليه، واليوم يقضي محمد صلى الله عليه وسلم آخر ما عليه، فهذه الكربات هي آخر عهده بكل الآلام وبكل الأحزان وبكل ما يكرهه الإنسان بعدها يفضي إلى نعيم دائم لا تَحوَّل عنه ولا زوال، فهذا كمال للإنسان.
كما أن الإنسان المؤمن عند انتقاله إلى الدار الآخرة هو كمال أيضاً؛ لأنه ينتقل إلى رضوان الله تعالى وجنته ونعيمه، وهذا لا شك ما لا يحصله الإنسان، ولا يدركه في هذه الدنيا.
كما أنه كمال من وجه ثالث؛ فإن الإنسان في هذه الدار هي دار التي الأحزان والأكدار: جبلت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار ومكلف الأيام ضد طباعها متطلبٌ في الماء جذوة نار وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفيرٍ هار فاقضوا مآربكم عجالى إنما أعماركم سفرٌ من الأسفار فالدنيا جبلت على كدر، ففيها الموت وفيها الآلام وفيها الأحزان وفيها المخاوف، وفيها الهموم، وفيها وفيها لكن! إذا انتهى الإنسان وأفضى إلى الدار الآخرة ترك ذلك كله وراء ظهره.